«الطقاطيق» الغنائية قد تحمل بذرة الخلود

لويس أراغون: أداء ليو فيري لقصائدي يشبه القراءة النقدية

لويس أراغون
TT

لعل العلاقات التي تربط الأدب بالأغنية كثيرة ومتشعبة، وهو موضوع حاول العدد الأخير من «المجلة الفرنسية الجديدة» الفصلية الفرنسية أن يخوض فيه. وقد كانت النتيجة شيقة من حيث إدراكنا أن الأغنية ليست بتلك المرتبة الوضيعة التي يحاول الكثيرون أن يضعوها فيها. وقد استضافت المجلة مغنين فرنسيين وازنين من عيار سيرج لاما وبرنارد لافيليي وأيضا شعراء وكتابا رصدوا العلاقات بين الجنسين الفنيين الكبيرين. ومن أهم المواد ذلك الحوار الذي ينشر لأول مرة مع الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون، صاحب ديوان «عينا إلزا» (ترجمه الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي وأحمد مرسي بـ«عيون إلزا»).

وكان الحوار مناسبة للتعرف على ما يتسم به عقل الشاعر من تسامح وانفتاح على كل الأشكال الكتابية والغنائية الشبابية. ولعل التعديلات التي كانت تجريها، في عالمنا العربي، أم كلثوم (ومغنون آخرون لعل من بينهم عبد الحليم حافظ) على نصوص شعرائها وكتاب كلماتها، والتي ما كانت لترضي كثيرا هؤلاء الأخيرين، عرفها الشاعر الفرنسي لويس أراغون نفسه، لكنه لم يكن ينزعج من الأمر أو يجادل قط في التعديلات التي قام بها المغنون ليو فيري وجان فيرا ومارك أوجيريت وآخرون (أحيانا كان المغني يلتقط بيتا شعريا، لا يَرِد في القصيدة سوى مرة واحدة، ويجعل منه لازمة).

«لِمَ يزعجني الأمر؟ لا أجد سببا. لقد كتبتُ قصائد تحت أشكال معينة، ولكن حين تُغنَّى لا يمكنها الحفاظ على نفس طول القصيدة (...) وأجد من الطبيعي أن يقوم شخص يمتلك موهبة وحساسية ليو فيري بأخذ شيء مني. وأنا أحس بشرف مطلق، بل ولدي اهتمام بما يفعل، من خلال تقطيعه وتوزيعه للأشياء، إنه كما لو كان يقوم بقراءة نقدية لشعري. وهذا الأمر يجعلني أعرف الشيء الكثير عن قصائدي»، يقول أراغون.

وينخرط أراغون في تقريظ الأغنية «أقول بأن كل شيء في فرنسا يبدأ بالأغاني، وإن كون فرنسا تعرف، حاليا، نهوضا جديدا للأغنية يعتبر مُهمّا لإشعاع بلدنا. وأعرف أنه في البلدان التي يعرف فيها الحضور الفرنسي نكوصا فإن الأغاني الفرنسية تجعل فرنسا تستعيد مكانتها الفكرية. يتعلق الأمر بنوع الأغاني التي نطلق عليها اسم (الأغاني الفكرية)، وأنا، شخصيا، أنطق لفظ (المثقف)، دائما، بكثير من الاحترام. لا أرى أنه من الأفضل لنا أن نعرف فقط استخدام أيدينا. إن كل الاحترام الذي لدي تجاه العامل اليدوي لا يتطلب مني احتقار ما كان يطلق عليه تشيكوف في زمنه بـ(أنتلجنسيا)».

لا يعتبر أراغون أن ثمة أغنية أفضل من غيرها، لكن الأذواق والحساسيات هي التي تختلف «ليس لأن التعبير عن الشعور تم من خلال بعض كلمات، وعبر وسائل أخرى، فإنه يفقد حدته، بل على العكس، إن معارضة أغنية بأخرى، وقتل أغنية بأخرى، هو المثال السيئ الذي نقدمه. ولن أنخرط في تحقير أي شكل غنائي يروق للشباب». ويضيف «ليس من المؤكد أبدا أن الأغاني التي نحتقرها اليوم والتي نطلق عليها اسم الموضة لن تكون غدا هي حاملة بذرة الخلود. وأنا أرى أن الشعر يخرج فائزا من هذا. إن الشعر هو الذي يفوز دائما. لكن أن يفوز الشعر معي/معنا، أقصد الشعراء الذين يمتهنون القصائد، أو أن يفوز مع مجهولين، مع كلمات تُعتبر أشكالا تحُط من قيمة الشعر، فهذا ليس مهما، إن الشعر هو الفائز دوما».

تنفتح المجلة على مختلف الأنواع الغنائية الفرنسية، بما فيها الراب، بكل ما تحتويه من الكلابات اللفظية التي يطلق عليها مغنو الراب اسم «اختصام»، وهي طريقة لرفع اللغة الفرنسية إلى الحلبة (حلبة الملاكمة)، وهو ما لا يمكنه سوى إثارة إعجاب قراء فرديناند لويس سيلين، الروائي الذي أحدث ثورة في اللغة والأسلوب الفرنسيين. والجدير بالذكر أن الكتاب الفرنسيين لا يجدون حرجا، قط، في الانفتاح على المغنين والتعاون معهم. ونستحضر كمثال على هذا الفيلسوف جان بول سارتر الذي وضع بنفسه ألحان أغنية «في شوارع بلاك - مانتو» (من موسيقى جوزيف كوزما)، والتي أظهرتها للعلن المغنية الكبيرة جولييت غريكو.

ترى لماذا لا تفكر مجلاتنا الأدبية في الانتباه إلى هذه العلاقة بين الأدب والأغنية، إذ لا تنقصنا الأمثلة ولا الشعراء ولا المغنون ولا المغنيات؟