جاسم صحيح: الشعراء داخلنا لا يشيخون

قال لـ «الشرق الأوسط» إن القصيدة لم تعد تزرع في الهواء كما حدث في مرحلة الشعر الرومانسي

جاسم الصحيح
TT

يعتبر الشاعر السعودي جاسم صحيح، من الشعراء الذين احتفظوا ببصمة شعرية مميزة، وبمفردة لغوية عميقة الدلالة، تتصل بالمعاني الفلسفية والروحية، مثلما تتصل بالأدب الرفيع. تتميز تجربته الشعرية بوعي عميق بالحاضر وقراءة فطنة للتاريخ، وإلى جانب حضوره في المشهد الثقافي المحلي، فإن له حضورا مماثلا في خريطة الإبداع العربي. وفي هذا الحوار الذي أجري معه على مرحلتين، من الدمام والأحساء شرق السعودية، حيث يقيم، يتحدث عن الشعر وقضيته، وعن المشهد الثقافي، وعن تجربته الشعرية، ولا سيما وهو يعبر نحو العقد الخامس من العمر.

* أنت معروف في المشهد الثقافي بوصفك شاعرا، ومنذ عامين بدأت تكتب زاوية أسبوعية، فهل تختلف رسالة «الكاتب» عن رسالة «الشاعر»؟

- أعتقد أن الرسالة واحدة، وهي رسالة إنسانية جمالية، ولكن ثمة اختلاف في أسلوب تقديم هذه الرسالة إلى الناس، فالشاعر يحاول دائما أن يكون أكثر تجليا في عرض رسالته، وهذا التجلي لا يتأتى له إلا عبر اللغة الأدبية المتوهجة الطالعة من روح المجاز، بينما الكاتب الذي يقدم رسالته الجمالية عبر زاوية في جريدة فإن ألقه اللغوي يأتي من وهج الفكرة وربما كان أقل ألقا.

* في عصر «تويتر» اختزلت المقالات إلى تدوينات قصيرة، فهل يمكن أن تختزل القصيدة لبيت؟

- أذكر أنني كتبت تغريدة بهذا الخصوص: «لا بد أن مخترع (تويتر) كان على اطلاع بأن الثقافة العربية مصابة بالإسهال اللغوي في الخطب والقصائد، لذلك اختصر المساحة على 140 حرفا».. لو عدنا إلى تاريخ الشعر العربي، لرأينا أن العرب كانت تختزل كل قصيدة في بيت فتقول «هذا بيت القصيد». هذا يعني أن الشعر الحقيقي هو اختزال وتكثيف وليس «تكرشا» و«ترهلات». وهناك في الشعر الفارسي ما يسمى الـ«دو بيت» وهو نص يتكون من بيتين. لكن رغم كل ما سبق، تبقى القصيدة مرتبطة بمشاعر الشاعر لحظة كتابتها وتدفقها من الوجدان.

* ثمة تحول طرأ على شعرك، فبعد أن كان يكتسي حلة «صوفية» أصبح أكثر واقعية.. ألا يبدو غريبا أنك تتجه للواقعية وتغادر صومعة التصوف حين يتقدم بك العمر؟

- لا يمكن للقصيدة أن تنتمي إلى مدرسة شعرية معينة انتماء كاملا، وإنما دائما ما تكون خليطا من مدارس ولكن تغلب الواحدة الأخرى. والقصيدة في «عصر ما بعد الحداثة» أصبحت تؤمن بسلطة الأرض أكثر من سلطة السماء.. «أقصد بسلطة الواقع أكثر من سلطة الخيال وليس ثمة أبعاد دينية هنا».. أي أن القصيدة لم تعد تزرع في الهواء كما حدث في مرحلة الشعر الرومانسي، وإنما باتت تزرع أكثر في تربة الواقع، وتتعمق، وتمسك بالأرض، وتعالج هواجس البحث عن الحقيقة في الإنسان. لكن هذا كله لا يعني أن القصيدة لا تأخذ لها استراحة من هذا العناء على شاطئ التصوف كي تغتسل من الوعثاء وتستعيد نشاطها وتستمد طاقة جديدة لمواصلة السفر.

* قديما كان شاعر الحداثة الفرنسي شارل بودلير يقول: الشاعر كأمير السحاب.. يسكن الزوبعة ويسخر من رامي السهام.. بالنسبة إليك، أي العواصف تحتمل جموح الشاعر لديك؟ وأين تصوب سخريتك في اتجاه السهام؟

- الشعر هو حالة عاصفة تجتاح النفس ويحولها الشاعر إلى إشارات مجازية داخل عبارات لغوية. بناء على ذلك تكون العاصفة جزءا من تكوين الشاعر وليست طارئة على حياته، فالحب عاصفة، والظلم عاصفة، والشوق عاصفة، واليأس عاصفة، وكل عاطفة هي عاصفة تشترك في تحريض الشاعر واستنفار جموحه. أما أين أصوب سخريتي في اتجاه السهام، فأنا أعتقد أن السخرية سلاح أخير يوظفه الإنسان في مواجهة خيباته وانكساراته وآلامه وحتى أقداره التي تنحاز للقسوة والوجع.

* كانت البلغارية إيرينا بوكوفا المديرة العامة لليونيسكو تقول بمناسبة اليوم العالمي للشعر: «إن الشعر موطن عالمي يستطيع فيه جميع الناس التواصل عبر الكلمات»، أليس ذلك تعبيرا رومانسيا عن الخيبة في بناء تواصل وتعايش حقيقي بين الأمم وليس مجرد أحلام وردية يزرعها الشعراء؟!

- صحيح أن قول بوكوفا قول رومانسي ولكننا نحتاج أحيانا إلى مثل هذه الرومانسية لأنها قادمة من واقع مرير، وعائدة إليه كي تخفف من حدة مرارته. لا شك أن الشعر يمكن أن يكون موطنا تلتقي فيه الناس ولكن إذا أحسن هؤلاء الناس نياتهم، لأن الشعر حسن النية بطبعه. وهنا لا يفوتني أن أنوه بالمهرجان العالمي الكبير الذي عقده - مشكورا - الشاعر عبد العزيز البابطين العام الماضي بإمارة دبي تحت عنوان «الشعر من أجل التعايش السلمي»، ودعا إليه عشرات الشعراء من أنحاء العالم. ذلك المهرجان كان بمثابة جرعة من الإنسانية أضيفت إلى جسد العالم كي يتخفف من أمراضه ويحتاج أن يعاد كثيرا لعل الشعر يستطيع في نهاية المطاف أن يشارك في شفاء الإنسانية العليلة.

* متى تكون القصيدة ضربا من الترف؟

- تكون القصيدة ضربا من الترف عندما تقتصر على اللعبة اللغوية دون توهج المشاعر داخلها، وعندما يحدث ذلك تخلو القصيدة من الشعر وتبقى مجرد قوالب باردة مثل توابيت حبلى بالموتى.

* يمر الشاعر بثلاث مراحل: مرحلة تقليد الآخر، ومرحلة الاستقلال عن الآخر، ومرحلة تقليد الذات.. هل داهمتك يوما مخاوف أنك تكرر ذاتك؟

- لا شك أن أخطر نوع من التقليد هو تقليد الذات وتكرارها في نسخ متشابهة، وكل مبدع محكوم بالحذر الشديد من مثل هذا التكرار لأنه مرشح له في حالة اللامبالاة. بالنسبة لي، أحاول دائما أن أعيد ابتكار ذاتي على خريطة الكتابة الإبداعية لأنه لا بديل عن إعادة ابتكار الذات سوى الانقراض والزوال من الخريطة.

* نخلة الأحساء مكون رئيسي في بنية القصيدة لديك، هذا التعلق بالبيئة الأحسائية وبالنخلة على وجه الخصوص على ماذا يدل؟ وما هي قدرة هذا الموروث على إيقاظ الوعي لديك؟

- أعتقد أن الشاعر، كل شاعر، هو أحد محاصيل بيئته، أي أنه نبتة من نباتات هذه البيئة. لذلك فهو يشتبك في جذوره مع بقية المحاصيل والنباتات من البشر والشجر وحتى الحجر. والنخلة هي بضعة من الأحساء التي لو نطقت لقالت «النخلة بضعة مني».. كما أنها تمثل المعلم الأكثر تجليا بين تضاريس الخريطة الأحسائية. لذلك كله، تقفز النخلة في مشهد القصيدة من قاع اللاوعي دون التفكير في إقحامها بين الكلمات، خصوصا بعد أن تجاوزت معناها الظاهر كنوع من أنواع الشجر، وتحولت إلى رمز أو مفهوم يختزل كل الأحساء وربما كل الوطن.

* كيف تقيم التجربة الشعرية في السعودية؟ وهل تراها نجحت في تحقيق مكانة متميزة في المشهد الشعري العربي؟

- التجربة الشعرية في السعودية تمشي بالتوازي مع التجربة الشعرية العربية وتلازمها كتفا إلى كتف. فالشعر هنا تدرج على مدارج الشعر العربي منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي وكابد ذات المكابدات وتنوع على صعيد الشكل وصعيد المضمون. في النصف الثاني من السبعينات مرورا بالثمانينات، توهجت قصيدة التفعيلة واستطاع شعراء تلك المرحلة أن يقدموا تجربة فنية جميلة كان لها صدى واسع في أنحاء الوطن العربي، ثم جاءت تجربة القصيدة النثرية خلال فترة التسعينات والتي تأثر شعراؤها بشعراء قصيدة النثر اللبنانيين مثل أنسي الحاج وعباس بيضون وبسام حجار. وقد استطاعت التجربة الشعرية المحلية أن تقدم إلى الساحة العربية شعراء استثناءات مثل محمد الثبيتي ومحمد العلي وغيرهما.

* أصدرت حتى الآن تسعة دواوين شعرية كان آخرها ديوان «وألنا له القصيد» ومن قبله ديوان «ما وراء حنجرة المغني» إلى آخر الدواوين، كيف تختار القصائد المناسبة لكل ديوان؟

- الديوان بالنسبة لي هو نهر أدبي مترابط يجري في مجرى واحد باتجاه مصب واحد. لذلك فدائما ما أختار القصائد التي تدور في أفق مشترك من أجل تكوين ديوان كامل. الديوان الأخير مثلا (وألنا له القصيد) يحتوي على قصائد عرفانية وأخرى دينية تلتقي في رحاب المطلق المجرد. أما ديواني «ما وراء حنجرة المغني» فمعظم قصائده تمثل تجاربي الإنسانية في حقول الحياة كالعشق والمعاناة ومواقفي من الكون والشعر والحقيقة.. وهكذا بقية الدواوين، إذ كل منها يدور في فلك خاص بموضوع معين.

* عنترة بن شداد، وأبو العلاء المعري وغيرهما من الرموز التاريخية حضرت في شعرك، على ماذا يتم اعتمادك في اختيار هذه الرموز وتوظيفها إبداعيا؟

- هناك رموز تاريخية كثيرة قمت باستحضارها ومحاورتها عبر قصائدي والهاجس الأول الذي يدعوني لاستدعاء مثل هذه الشخصيات هو أنني أعيش نفس الصراع الذي عاشته هذه الشخصية داخل ذاتي فأشعر بأن حضور هذه الرموز يعطي القصيدة زخما شعريا ما كانت لتتمتع به لولا هذا الحضور.. مثلا في فترة زمنية كان هاجس العتق من كل القيود التي تحيطني هو الهاجس المسيطر على تفكيري فجاء عنترة بكل هواجسه في نيل الحرية:

في أي جرح ألتقيك ونحن منذ النبضة الأولى جراح في جراح

أنا أنت.. أنت أنا.. وندخل ساحة الجدل العقيم

ونحن لم نبرح يمثلنا ضمير الغائب المجهول

في جمل الكرامات الفصاح

أما المعري فقد قمت باستحضاره عبر هاجس الشك الذي لا ينفك يسيطر على جميع المبدعين، ناهيك عن كل إنسان حي في أعماقه:

أيها المنطوي بقنينة الشك

وحيدا تعب خمر الحجاب

طفحت بيننا القناني فكانت

شبها فـي حقيقة الأنخاب

نحن في حانة المقادير سيان

نشاوى الأسرار والأسباب

فتقدم نلاعب القدر الماهر

نرد الهموم والأتعاب

* ما هو مشروعك الأدبي المقبل؟

- طباعة الأعمال الكاملة، فهذا الأمر أصبح ضروريا بالنسبة لي لأن معظم دواويني نفدت ومن الصعب إعادة طبعها واحدا واحدا. لذلك، فأنا أعمل الآن على إعداد ما يشبه المجموعة الكاملة آملا أن يوفقني الله لطبعها قريبا.

* مقاطع شعرية للشاعر جاسم صحيح

* مقطع شعري إلى روح محمود درويش:

* محمود يا رجلا من الياقوت تلبسه النساء

- مروا بنعشك مثقلا بالورد والتيجان..

* محمولا على شهقات ريتا.. كان يرفعه البكاء!

- قلت: العزاء..

* فقال - من ألم - صديقي: لا عزاء!

- محمود عصفور

*يخبئ في جناحيه الفضاء.. وها هنا سقط الفضاء!

***

* مقطع شعري آخر:

* يا صائغ الغيب.. والإيمان جوهرة

- مما تصوغ.. فأصلح خدش إيمانـي

* إن الصباح الذي استبصرت قهوته

- أعمى يقود مصيري وسط فنجانـي

* تجاذب البرق أطراف البريق معي

- كي أهتدي وأرى اسمي وعنواني

* نزلت أعماق نفسي مثلما نزلت

- على المياه عصا موسى بن عمران

* فانشقت النفس عن شطين ما عرفا

- جسرا يوحد بين الشط والثاني