جيمس بوند تأمرك ويطارد «القاعدة»

50 سنة على ولادة أشهر جاسوس سينمائي

TT

صار عمر جيمس بوند خمسين سنة، وما زال يتجدد ويغير أعداءه ويطور أساليبه المبتكرة في مطاردتهم. كان بريطانيا صرفا في البداية، ثم صار متأمركا بقوه. بدأ حياته مطاردا جواسيس روسيا الذين نشطوا خلال الحرب الباردة، ومن ثم صار يطارد أفارقة وآسيويين، لنراه اليوم مشغولا بالإرهاب والإرهابيين. العالم يتغير وجيمس بوند أيضا. كيف استطاع هذا الجاسوس البريطاني أن يواكب العصر، ويركب الموجات، يستخدم أحدث التكنولوجيات، الإجابة في التحقيق التالي.

تتجلى تقليعات جديدة في أميركا هذه الأيام، وسط الشباب: يرتدي الرجل بدلة مثل بدلات جيمس بوند، يقدم نفسه قائلا، في لكنة بريطانية: «بوند، جيمس بوند». يدندن بموسيقى «ترام رام رام ري تام» (موسيقى أفلام جيمس بوند). يجلس في مطعم أو بار، ويطلب مشروب «جين تونيك» (قويا). يقود سيارة «أوستن مارتن»، تصحبه فتاة رائعة الجمال (لا بأس إذا كانت شقراء). وهو نفسه، شعره أشقر، وعيناه زرقاوان. هذا موسم جديد لسلسلة أفلام جيمس بوند، بمناسبة صدور فيلم «سكاي فول» (السقوط من السماء)، بمناسبة مرور نصف قرن على صدور أول فيلم: «دكتور نو» سنة 1962.

تصور هذه التقليعات تأثير أفلام «جيمس بوند» في الثقافة الأميركية. وهو البريطاني الجاد، شبه الارستقراطي، الذي تخصص في محاربة الشر في كل العالم. لكن، بعد أكثر من عشرين فيلما، وفي مرحلة ما يسميها الأميركيون «ما بعد هجوم 11 سبتمبر (أيلول)»، تأمرك جيمس بوند.

الفيلم الذي صدر الشهر الماضي فيه إشارات وتلميحات إلى الإرهاب، لكن، «جيمس بوند القرن الحادي والعشرين» يمكن أن يتخصص في محاربة الإرهاب والإرهابيين في المستقبل.

إذا حدث هذا، سيبتعد جيمس بوند عن روايات البريطاني أيان فلمنغ (الذي طبعا لم يشهد هجوم 11 سبتمبر). لكنه لن يبتعد عن مغزى الروايات، التي هي جزء من ثقافة غربية عملاقة، والتي هي جزء من الصراع التاريخي والمستمر بين الغرب «المتحضر» والشرق «غير المتحضر».

* الروائي فلمنغ

* أيان فلمنغ (1908 - 1964) روائي بريطاني (كتب أكثر من عشرين رواية)، وصحافي (عمل في وكالة «رويترز»)، وجاسوس (عمل في «إن آي أو»، مكتب الاستخبارات البحرية).

ساعدته هذه التجارب في كتابة سلسلة روايات جيمس بوند. 14 رواية، وزعت حتى الآن أكثر من مائة مليون نسخة، وصارت كلها أفلاما. وبعده، كتب آخرون روايات مماثلة، صارت أيضا أفلاما، وبلغت 25 فيلما، بما فيها آخرها «سكايفول».

وساعدته خلفيته الثرية في تصوير بوند كشخصية شبه أرستقراطية (وهو من ورثة بنك فلمنغ الاسكوتلندي الذي، في سنة 2000، اشتراه بنك جيس مانهاتن الأميركي بسبعة مليارات دولار).

وساعدته وظيفة والده في تصوير مغازٍ سياسية لمغامرات بوند حول العالم (كان عضوا في البرلمان البريطاني).

وساعده مقتل والده في الحرب العالمية الأولى في التركيز على وطنية بوند، وولائه للتاج البريطاني (قتل برصاص الألمان على الجبهة الغربية).

وساعدته علاقات جنسية مع نساء متزوجات في كتابة تفاصيل مغامرات بوند الجنسية (منهن آن جارتريز، زوجة لورد بريطاني، كانت أيضا عشيقة لورد آخر صاحب صحيفة «ديلي ميل». وعندما اكتشف زوجها هذه العلاقات الغرامية، طلقها، وتزوجها هو).

وساعده عمله في وكالة «رويترز» في كتابة تنقلات بوند من بلد إلى بلد. فقد تجول في عواصم كثيرة، منها: موسكو (بعد الثورة الشيوعية) والصين (قبل الثورة الشيوعية) وتركيا (بعد سقوط الخلافة العثمانية) وإسبانيا (قبل الحرب الأهلية).

وساعده عمله كجاسوس «في الميدان» على تصوير مغامرات بوند «الميدانية» (خلال الحرب العالمية الثانية، قاد فرقة جواسيس لتفجير منشآت ألمانية في جبل طارق بينما كان الألمان يتقدمون نحو مصر).

وساعده تعاونه مع جواسيس أميركيين على تقديم جانب أميركي لمغامرات بوند (زار واشنطن مرات كثيرة خلال الحرب العالمية الثانية. واشترك في تأسيس «أو إس إس»، مكتب الخدمات الاستراتيجية، الذي صار، بعد سنوات، وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه»).

وساعده تعليمه في مدارس مشهورة في الأسلوب الممتاز، والكتابة المنضبطة، والاهتمام بالأخلاقيات (ايتون الثانوية، وساندهيرست العسكرية، وجامعة ميونيخ، وجامعة جنيف).

استلهامات جيمس بوند

لم يكتب فلمنغ أولى روايات جيمس بوند إلا بعد أن بلغ عمره خمسين سنة، وفي بداية الخمسينات من القرن الماضي. كان هذا قبل وفاته بأقل من عشر سنوات.

أسلوبه لا يركز فقط على المعلومات المفصلة، ولكن، أيضا، على الأجواء المفصلة.

لماذا اسم «جيمس بوند»؟

فيما بعد، قال فلمنغ إنه «اسم بريطاني، رجالي، جاد، لا يبتسم، أنغلوساكوسني». وأيضا، لأنه اسم صديق بريطاني متخصص في علم الحيوانات، وعاش سنوات كثيرة في جامايكا (البحر الكاريبي). وكان فلمنغ اشترى منزلا شتويا هناك. في نفس الجزيرة، دارت أحداث رواية «دكتور نو» (أول أفلام جيمس بوند).

وفي نفس الجزيرة، كتب فلمنغ رواية «فروم رشا، ويث لاف» (من روسيا، مع الحب). وصارت الرواية (ثم الفيلم) مثالا للحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشيوعي. ولشبكات التجسس، والتجسس المضاد، والتجسس المضاد للتجسس المضاد. ولا تذكر الرواية (والفيلم) إلا ويذكر «أورينت إكسبريس» (القطار الذي كان يربط باريس بإسطنبول، منذ نهاية القرن التاسع عشر. والذي استقله جواسيس الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسقوط الإمبراطورية العثمانية، وتوسعات ألمانيا الهتلرية).

* بوند السياسي

* هناك جوانب سياسية في روايات وأفلام جيمس بوند.

كتب جيرمي بلاك، مؤلف كتاب «بوليتكز أوف جيمس بوند» (الجوانب السياسية لجيمس بوند) أن هذه الروايات والأفلام يمكن تقسيمها إلى قسمين:

الفترة الأولى: مغامرات الحرب الباردة. مثل: «كازينو رويال» و«من روسيا مع الحب» و«فور آيز أونلي» (للنظر فقط).

الفترة الثانية: بعد نهاية الحرب الباردة، عن تجار المخدرات، ومؤامرات في الفضاء، وتهديدات للأمن الأميركي. مثل: «أوكتوبوسي» (أخطبوط) و«غولدن غن» (مسدس ذهبي) و«سباي هو لفز مي» (الجاسوس الذي يحبني).

في كل الروايات، ينتصر جيمس بوند، ويقتل أعداءه، واحدا بعد الآخر. وفي مرات كثيرة، يقتلهم حتى إذا لم يكونوا يريدون قتله. يقتلهم وكأنه «يصطادهم».

في أفلام الفترة الأولى أغلبية «الأعداء» من شرق أوروبا، من الشعوب السلافية. وفي أفلام الفترة الثانية بعد الحرب الباردة، أغلبية الأعداء أفارقة وعرب ومسلمون وآسيويون.

لكن، حتى في أول الأفلام مثل «دكتور نو»، قتل جيمس بوند سودا في جزيرة جامايكا (في البحر الكاريبي)، وقتل دكتور نو (الصيني الذي أسس إمبراطورية «شريرة» في جامايكا).

وكتب مؤلف كتاب «الجوانب السياسية لجيمس بوند»: «لم ينتمي الأعداء في روايات فلمنغ إلى طبقة اقتصادية معينة، ولكن إلى جماعات عرقية أو لونية (سوداء، سمراء، صفراء). ركز فلمنغ، على حياة الحكام البريطانيين الاستعماريين، على الخدم والموظفين الأجانب».

وكتب: «لم ينفرد فلمنغ بالكتابات العنصرية في ذلك الوقت. كانت مثل هذه الروايات جزءا من الثقافة الغربية، بل جزءا هاما ومنتشرا».

* ما بعد فلمنغ

* بعد وفاة فلمنغ، تعاقدت دار نشر «غليدروز» التي كانت تنشر رواياته (غيرت اسمها إلى «دار نشر فلمنغ» لتستفيد من شهرته) مع آخرين للاستمرار في كتابة روايات جيمس بوند.

ويمكن تقسيم هذه الفترة إلى قسمين:

أولا: روايات كتبها بريطانيون، وواصلوا روايات الحرب الباردة. مثل: «كولونيل صن» وفيه يحارب جيمس بوند شبكة جواسيس صينية شيوعية تعمل في اليونان. و«سباي هو لفز مي» (الجاسوس الذي يحبني) وفيه يحارب جيمس بوند شبكة جواسيس روس فجروا غواصات أميركية وبريطانية. و«موون ووكر» (الماشي على سطح القمر) وفيه يحارب جيمس بوند مدير شركة لإنتاج أقمار فضائية كان يريد تدمير العالم من الفضاء. و«غولدين آي» (العين الذهبية) وفيه يحارب جيمس بوند عصابة روسية تريد تدمير المركز المالي العالمي في لندن.

ثانيا: روايات كتبها أميركيون، وخاصة بعد هجوم 11 سبتمبر (أيلول) سنة 2001. وفيها تأمرك جيمس بوند، وتخصص في محاربة الإرهاب والإرهابيين. مثل: «كارت بلانش» (شيك مفتوح) وفيه يحارب جيمس بوند في أفغانستان كجاسوس بريطاني في عملية بريطانية ضد طالبان وتنظيم القاعدة.

* رواية «السقوط من السماء»

* يعتمد آخر أفلام جيمس بوند، «سكاي فول» (السقوط من السماء)، الذي صدر الشهر الماضي، على رواية كتبها فلمنغ بنفس الاسم، قبل أربعين سنة تقريبا. لكن، وضعه المنتجون والمخرجون والممثلون الأميركيون في قالب ما بعد هجوم 11 سبتمبر (الحرب ضد الإرهاب والإرهابيين). وذلك لأنه يصور «دوميستيك تيروريزم» (الإرهاب الداخلي) الذي صار هدف الحكومة الأميركية. بعد محاربة الإرهابيين في الخارج، التركيز على الإرهابيين داخل الولايات المتحدة. وخاصة «الإرهابيين الأميركيين» مثل الأميركيين الصوماليين الذين سافروا إلى الصومال، وانضموا إلى حركة الشباب الإسلامية. ومثل الأميركيين البيض الذين إما اعتنقوا الإسلام، أو يعطفون على المسلمين، أو «غسل إرهابيون أدمغتهم».

في الفيلم، يسرق الإرهابيون قرص كومبيوتر فيه أسماء عملاء حلف الناتو الذين تغلغلوا وسط المنظمات الإرهابية، ويقتل الإرهابيون بعضهم، ويصير الخائن هو «سيلفا» الذي كان يعمل في الاستخبارات البريطانية، ثم يتمرد عليها، ويحاربها (بالتعاون مع أفارقة وعرب وآسيويين).

نجح الفيلم (حقق أرقاما قياسية في أول أسبوع) ليس لأن فيه إشارات إلى الإرهاب والإرهابيين، ولكن لأنه فيلم جيمس بوند، وفيه استعلاء البريطاني، وحضارته، وأناقته، وبرودته، وشجاعته، وانتقاله من دولة إلى دولة، ورغبته في أن يزول الظلم ويسود العدل في كل دولة.

* إشادات وانتقادات

* أشاد بالفيلم كل الصحافيين الأميركيين المتخصصين في الأفلام السينمائية. لكن، أشار البعض إلى نقطتين:

أولا: ما صار يعرف بأنه «جيمس بوند القرن الحادي والعشرين» (القصد: عالم ما بعد هجوم 11 سبتمبر، في صورة مواجهة بين الخير والشر على نطاق عالمي).

ثانيا: «الإرهاب الداخلي» (القصد: إمكانية تدمير وكالات الاستخبارات من الداخل بمؤامرات داخلية، مثلما فعل «سيلفا» للاستخبارات البريطانية).

وكتبت آن هورنادي، المسؤولة عن الأفلام في صحيفة «واشنطن بوست» أن الغربيين الذين يطاردون الإرهابيين ويقتلونهم، في الأفلام، أو في المسلسلات، أو في الواقع «لا يحاربون فقط الإرهابيين، ولكن أيضا يحاربون شياطين في أعماقهم».

وكتبت أن بوند «كان شابا متحمسا، وصار كبيرا في السن ووقورا. كان يعتمد على معلومات الخرائط الحائطية وأرفف الكتب، وصار يعتمد على الكومبيوتر. كان يقتل جواسيس المعسكر الشيوعي، وصار يقتل الإرهابيين».

وكتب جون كريغ، المسؤول عن الأفلام في موقع «ياهو»: «توقعوا جيمس بوند يقتل شخصيات مثل: بن لادن، وكتائب شهداء الأقصى، وتجار مخدرات مثل بابلو اسكوبار (كولومبيا)، وأميركيين مثل ماكفي (مفجر المبنى الاتحادي في ولاية أوكلاهوما)، وأميركيين مسيحيين متطرفين مثل جيم جونز (في السبعينات) وديفيد كاريش (في الثمانينات)».