قضايا العرب القاتلة

الموديل البعثي والشيوعية والثقافة والإسلام الغني والإسلام الفقير

غلاف «قضايا قاتلة»
TT

لم يكتف حازم صاغية بما أثارته كتاباته في الصحف والدوريات والمواقع الإلكترونية، وكتبه، واهتماماته المعرفية، وهمومه وقلقه الدائم بشأن المستجد، واقترافاته الكتابية المغايرة، وارتكابه المعاصي المختلفة المثيرة للجدل، وطموحه لتشييد ما هو أعقد من ثنائيات الأبيض والأسود، والسيف والقلم، والحبر والرصاص.

لم يكتف بـ«الهوى دون أهله» ولا بـ«تعريب الكتائب» و«أول العروبة» و«ثقافات الخمينية» وغيرها من الكتب التي أبدى عبرها برأيه الأعلى فأثار غضبا، وأوقد مساجلات لم يتم إخمادها بعد، فأضاف إلى الحريق المندلع نار «قضايا قاتلة».

يضم كتاب «قضايا قاتلة» مباحث متفرقة لا يجمعها رابط، ولا صلة، سوى أنها قضايا قاتلة، فالرابط بين اجتثاث البعث، إلى الإسلام الغني والفقير، وبرج دبي، والشيوعية والثقافة، ومسائل الرومنطيقية.

يرى المؤلف في «مسائل عراقية» أن الأنظمة التوتاليتارية تتشارك في عدد من المواصفات، خصوصا الميل إلى تسييس مستويات الوجود الاجتماعي كلها، والنهوض على أيديولوجيا علموية قد تكون خرافية وماضوية معادة الإنتاج، وقد تكون مستقبلية طوباوية. وإلى هذين يندرج في المواصفات الربط العضوي بين أجهزة السلطة، ووجود الزعيم المعصوم، والاعتماد على المخابرات، وتعميم الأكاذيب في الإعلام والتعليم والحياة اليومية للسكان.

وعلى الرغم من الصحة المبدئية في هذا التوصيف، يبقى أن من غير الجائز وضع التوتاليتارات جميعا في سلة واحدة، فتوتاليتارية هتلر غير توتاليتارية ستالين، فالتباينات واضحة بين الفاشية الإيطالية باعتبارها سلطوية فحسب وبين الستالينية والنازية. لا بل يوجد فوارق فعلية داخل النظام التوليتاري الواحد. فالخميني هو ستالين الإسلام لأنه أراد ثورة في بلد واحد، وبن لادن تروتسكي الإسلام الذي أراد ثورة أممية.

وإنه في مجرد الحديث عن صدام حسين وسلطته في العراق، تتدفق تلقائيا أسماء الأبناء والإخوة وأبناء العم والخال. والحال أن «الموديل» البعثي يبقى دون هذه الأسماء، أشبه بلغز يستعصي على الحل. لكن هل هناك مثلا، في المقابل، من يعرف ما إذا كان لدى هتلر أخ؟ وما إذا كان لدى ستالين ابن عم، وفي هذه الحال ما اسمه؟ بالطبع يستدعي الجواب عن هذه الأسئلة درجة من الجهد والمتابعة لا يحتاج إليهما دارس السياسة العراقية.

يقول المؤلف إن من يراجع التاريخ العراقي الحديث، البادئ مع تأسيس الدولة - الأمة في العشرينات من القرن الماضي، يلاحظ الضعف التكويني العميق الذي لازم النشأة الاصطناعية لهذا الكيان القسري المصنف رسميا جزءا من الأمة العربية. أجبر الأكراد بالقوة على الاندماج فيه، كما لعب التعليم في العهد الملكي دورا محدودا وملحوظا في إنتاج نخبة حديثة ومدينية. وما بين (1958-1963) كان لعبد الكريم قاسم دور بارز في تأسيس طبقة وسطى تدور حياتها العامة حول بغداد بوصفها مركز الدورة الاقتصادية والثقافية. وبعد سقوط قاسم تلاحقت الأنظمة التي كانت اليد العليا فيها للعسكريين، بينما أدى العجز المتنامي عن تطوير حياة سياسية إلى زيادة الاحتقان وتوسيع رقعته. وكان وصول البعث إلى الحكم عام 1963 عسكريا، إلا أن تجربة الحكم أصابت جناح الحزب المدني الشعبوي، فأصبحت القيادة الفعلية في أيدي العسكريين البعثيين وأقاربهم، بينما كانت نسبة عالية من ضباطه من أبناء تكريت وجوارها، بدا مفهوما أن تتلون البعثية بالتكريتية.

بدورها جاءت التوتاليتارية الصدامية بنت العجز التاريخي عن بناء دولة - أمة، بقدر ما كانت اقتراحا وحشيا في بناء هذه الدولة - الأمة.

لهذا يجد من يراقب الصعيد الآيديولوجي وتحولاته أن القمع الصدامي بدا مصحوبا بطاقة خرافية، فالرافعة العربية، نراها تتراجع مع الاحتفالية بالسومرية والبابلية وغيرهما من «أصول» تتعارض مع الرواية العربية للتاريخ. والتشديد غالبا ما كان رفعا لدرجة عبادة الزعيم الفرد الملهم، ولدرجة الارتباط بسياساته، حتى حين تتناقض مع كل مصدر أيديولوجي يمكن أن يسندها.

يلاحظ المؤلف أن الحقبة البعثية في العراق خلت من سجالات أيديولوجية داخل الحزب الواحد، من دون أن تخلو من أعمال قتل وتصفيات دموية للرفاق. فصعود صدام إلى نيابة الرئاسة أواخر الستينات، وصعوده إلى الرئاسة أواخر السبعينات، لم يسبقهما أي نقاش فكري بين البعثيين. فيستحيل بالتالي العثور على معنى سياسي يتعدى التآمر لحلوله محل البكر في رئاسة الدولة وقيادة الحزب. ويرى الكاتب أن من علامات الاحتقار للجهد الآيديولوجي أنه بعدما كان «الأستاذ» اللقب الحصري لمؤسس البعث، عفلق، أسبغ هذا اللقب على عدي، نجل صدام الأكبر الذي أخذ عليه، بين أمور أخرى، اضطرابه الذهني والسلوكي. هكذا لم يوجد في العراق أي حيز للأفكار مستقل عن البقاء في السلطة، أي عن التداول في تقنيات التآمر والتخلص من الخصوم.

أما عن اجتثاث البعث، يقول الكاتب، إن تعريب «نزع» بلفظة «اجتثاث» التي تعني الاستئصال تذكر بعهد صدام، الذي فرض التبعيث بقوة السلطة واجتث من يقفون في طريق الزعيم الأوحد.

ما لا شك فيه أن البعث تنبغي محاسبته على نحو صارم. فالحزب قلب المجتمع العراقي رأسا على عقب، ودمر حياة مئات آلاف السكان، فضلا عن جرهم إلى حربين عدوانيتين، وقصف بعضهم بالسلاح الكيماوي، واحتكر كل المواقع في المؤسسات الاجتماعية والتعليمية وغيرها. لهذا بدا تحرير الدولة والمجتمع من قبضته شرطا لا بد منه لبناء عراق بديل. كما أن إخضاع المسؤولين عن الانتهاكات للعقوبات بموجب محاكمة عادلة فأمر بديهي. أما بالنسبة لاجتثاث البعث فيجب الاستدراك، فصدام نفسه بدأ نزع البعث حين أعاد في العقد الأخير من عهده، الاعتبار للعشائر، جاعلا الحزب مجرد واجهة لحكمه الشخصي وعائلته وأجهزته الأمنية. أضف إلى ذلك أن الانتساب إلى البعث، أقله منذ 1990 صارت تمليه الاعتبارات المصلحية والانتهازية، وأحيانا مجرد الحصول على فرصة عمل، وهناك من انضوى تحت التهديد والضغط النفسي. وهي عوامل غدت أشد تحكما في تقرير العضوية الحزبية من الاعتبارات الآيديولوجية. فكيف وأن العنصر الثقافي ضعيف جدا في العقيدة البعثية المنتفخة بالإنشاء الخطابي، والتي تحولت في عهد صدام إلى بضعة طقوس تتبارى في تمجيده.

هذا كله يعقد شروط المحاسبة، فالرد على سلوك غير أيديولوجي لا ينبغي أن يكون ردا مؤدلجا على ما هي حال اجتثاث البعث. فالمعالجة ذات الخلفية العقائدية لمشاكل كهذه تفتقر إلى المرونة بقدر ما تؤول إلى ثأرية جماعية لا يتخللها الفرز والتمييز.

في المقابل، كان نهج اجتثاث البعث، من الأسباب المنتجة للتطرف والإرهاب، بدل أن ينشأ عنه أي توحد وطني، خصوصا وقد ترافق مع حل الجيش، وانهيار مصدر المعيشة لمئات آلاف العراقيين.

يرى المؤلف أن الإنصاف يقتضي التمييز، بين التبعيث الصدامي واجتثاث البعث، فالتبعيث كان قرارا مركزيا لا يسمح بمناقشته ومعارضته. أما الاجتثاث فكان عرضة لانتقادات شتى من قبل بعض قوى النظام العراقي الجديد كما من قبل الأميركيين أنفسهم. ثم إن نزع البعث كما حصل، بدا شديد الارتباط بتقلبات السياسة الأميركية وعدم وجود خطة لما بعد الحرب. لهذا اختلفت المنهجية الصارمة في التبعيث عن اعتباطية اجتثاث البعث وهشاشته.

في الفصل الثاني يعالج المؤلف الإسلام الغني والإسلام الفقير فيرى أن الصورة التي يرسمها التطرف الإسلامي لا تفعل غير إفقاره وإخراجه من التاريخ. ويرى أن أبرز قوة الإسلام غناه والتعددية التي اتسمت بها نشأته ونموه. فالإسلام توسع بقوى عدة أكسبه كل منها لونه. ففي شمال أفريقيا والبلقان والهند تولاه فاتحون عرب أو أتراك، وفي غرب أفريقيا انتشر عبر اتصال سلمي أقامه التجار أو عبر التبشير، وفي حالات أخرى خاطب الطبقات المدينية أو الجماعات القبلية، كما ارتبطت جاذبيته بالتداخل بين المصالح السياسية والاقتصادية والمعاني الثقافية والإيمانية. فالفاتحون المسلمون رغبوا، في البداية، في مد سيطرتهم أكثر مما رغبوا في تحويل غيرهم دينيا، بينما جاء معظم التحول اللاحق طوعيا.

لقد ترك لنا التاريخ ما يفيض من الحجج عن غنى التجربة الإسلامية التي لا يجوز إفقارها على ما يفعل الأصوليون الإرهابيون. فتسطيح المعاني ولدت فاشية إسلامية قسمت العالم مانويا إلى «نحن» الأخيار و«هم» الأشرار. يعرض المؤلف الأحداث الناتجة عن العصبية الدينية في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن الحالي ليخلص إلى القول، بأن الحركات المتطرفة ذات بعد سياسي يحكمها الاستيلاء غير الديمقراطي على السلطة، وهذا هو الهدف الذي تتشارك فيه مع حركات حرب عصابات قومية ويسارية. وهذه تجارب تراوح بين أشكال من التبديد والافتقار، ولا تصير تعاقب الزمن تاريخيا، لكنها تجرف في طريقها كل ما تنبض به الحياة أو ينبض بها.

وعن معنى برج دبي، يقول الكاتب إن البشر الأوائل لم يجدوا لإعلاء ذواتهم وإطالة أجسامهم خيرا من الأبراج، بينما تلك الذوات والأجسام مطالبة دوما بأن تصغر وتتصاغر. فالبرج الوسيلة التي تنطح السحاب، ولطالما كان البرج مركزيا في محاولات التجرؤ تلك.

وفي ارتكاز البرج على مركز، أو في استوائه مركزا، ينتزع لنفسه صفة الأصل والمصدر، لا العلو فحسب. فمن يزعم أن له تلك الصفات يصل في اعتدائه إلى حد تحويل الطبيعة والتحكم في مصادر اشتغالها. كذلك عاش المعنى المذكور ضامرا عند الذين اعتبروا الأبراج أفلاكا، وعند من ربطوا بها قراءة الحظوظ، وعند من أوكلوا إليها الاستطلاع والمراقبة فقالوا «برج استطلاع» و«برج مراقبة» فضلا عن تكليفها كشف حركة السفن أو الرصد الاستباقي لتحركات الأعداء.

يعرض المؤلف تاريخ الأبراج في العالم ورمزيتها، كما يربط بين برج دبي والأزمة المالية التي مرت بها الإمارات، وطبيعة العمالة الأجنبية ليخلص إلى القول: إن دبي تعالت على تاريخها، وانقلبت على طبيعتها انقلابا كاملا، حولت نفسها فرجة باهرة فحسب.

وتحت عنوان، الشيوعية والثقافة: طلاق مر بعد زواج حميم. يقول المؤلف بعد أن يعرض الأزمات التي مرت بها السياسة الشيوعية ليخلص إلى أن في الوعي الشيوعي والنضالي كانت الحكمة السائدة بعد الحرب العالمية الثانية، أن المثقفين ليسوا مطالبين بأن يفكروا ويحددوا الفارق بين «الصح» و«الخطأ». فالمهمة المنوطة بهم أن يفهموا ما يجري حولهم ويلتزموا به، أن يكونوا «ضد» الخط الآخر، أي أن يكونوا تقنيي مواقف. وبدا هذا على الرغم من تناقضه مع الوظيفة المفترضة للمثقف، مقبولا لأسباب في عدادها أن الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية لم يخرجوا من حربيتهم وأخلاقها الاستقطابية والحدية التي نقلوها إلى الحيز الثقافي. هكذا صارت الثقافة «جبهة» تقف في مواجهة «جبهة» أخرى.

ولم يعد في وسع المثقفين، أو في رغبتهم أن يغطوا الشيوعية. لقد ماتت روح الشيوعية التي فقدت شعبيتها، ولم تعد تنهض على شرعية حزب مصلح أو حتى على دروس التاريخ، ولم تبق على قيد الحياة إلا بفضل القوة الممزوجة بالقروض الأجنبية، وقد استمر هذا الموت المؤجل حتى 1989.

أخيرا يتعرض المؤلف للرومنطيقية، وحالة الحراك بين الريف والمدينة، والنزوع الفاشي، والتمسك بماض يرتد عنفا على الحداثة، لنغدو أمام قرية ثرثارة في تفعيلها فصاحتها واستنفادها. وأمام مدينة ميؤوس من أن تتغلب على بكمها. وهنا، وتحت مقصلة الرومنطيقية السقيمة لا يقتل الرومنطيقي وحده، ولا يقتل رومنطيقي واحد.