مشاهدات تحولت إلى كلمات ناطقة

كتاب شعري يستعيد فيه الشاعر المغربي ياسين عدنان رحلاته

غلاف «دفتر العابر» للشاعر المغربي ياسين عدنان
TT

يشكل صدور ديوان «دفتر العابر» للشاعر المغربي ياسين عدنان محطة ملفتة في مسيرة هذا الشاعر. فقد جاء هذا الديوان ليؤكد تطورا لافتا في تجربة صاحب «رصيف القيامة»، العمل الشعري الذي عرفت فيه قصيدة عدنان نضجها الشعري.

وإذا كانت قصيدة «رصيف القيامة»، وهي إحدى قصائد الديوان، الذي أخذ نفس العنوان، كتبت إثر متابعة الشاعر للنقل الحي المباشر لكارثة انهيار برجي نيويورك على التلفزيون في بداية الألفية، فتخيل نفسه يشاهد بثا حيا للكارثة من على رصيف آمن، فإن عمله الشعري الجديد، الصادر عن دار «توبقال للنشر» المغربية، جاء ليدون أخبار العالم والناس حيث هم ومن حيث أرصفة المحطات، محطات العبور.

«دفتر العابر»، ديوان زاده السفر ومحركه الاستطلاع، يلخص لتجربة شعرية فريدة تنقل ولأول مرة أدب الرحلات إلى حقل الشعر من خلال ديوان كامل، يسهم في إثراء وتجديد أدب الرحلة المعاصرة وإعطائها نفسا شعريا حديثا: سفر نحو الآخر بحثا واستكشافا، والتقاط لتفاصيل ومصادفات حالية بلغة شعرية متينة تتراوح ما بين الشعر والسرد وما بين اللغة الحديثة والموروث القديم. إنها رحلة معاصرة يستحضر فيها الشاعر رفاقا من زمن غابر: «كان ابن خلدون رفيقي في الرحلة. وكنا نتبادل الأدوار. يحدثني عن فاس وتونس وقاهرة المعز، وأحدثه عن مراكش وباريس وبرلين: مقصدي الأخير بعد هذا الترانزيت الإنجليزي الطويل. يحدثني عن المغول وعن تيمور الأعرج حفيد جنكيزخان، عن الملك الظاهر برقوق وقبله عن سلطان فاس أبي عنان. وأحدثه عن ملوك الطوائف الجدد في القرن الحادي والعشرين».

السفر هنا، فرصة للحوار مع الذات، الذات الفردية والجماعية وكذا الذات الحضارية الضاربة في أعماق الماضي العربي الإسلامي، كما أنه ترحال في الزمان والمكان زين للشاعر كما لو كان شهوة أو غواية. وهو ما أقر به الشاعر منذ الإهداء: «إلى طه، اخترت الهجرة وزين لي السفر». وطه المقصود هو طه عدنان، شقيق الشاعر المقيم ببلجيكا. وهو شاعر أيضا. وإذا كان طه قد اختار الهجرة التي تقتضي هجرانا ووطنا مهجورا، فإن السفر مارس غوايته على ياسين فزين له وحبب إليه. والسفر، على عكس الهجرة، يعني التنقل المتكرر جيئة وذهابا. وهو تنقل مارسه شاعرنا منذ العنوان، قبل أن يمارسه في الديوان بين القارات والمدن، لذلك أسر للقارئ في مفتتح كتابه الشعري ببوح خاص يصف قلقه وحيرته وتقلبه بين العناوين: «عنونت هذا الكتاب الشعري أول مرة بـ«دفاتر العبور»، ثم هيأته للنشر تحت عنوان «ناي الأندلسي»، ثم عدت وفتحته على المزيد من التنقيح فصار «في الطريق إلى جنة النار». وأخيرا حسمت أمري: أنها دفاتر عابر (لكأن العناوين حبيبات، وما الحب إلا للحبيب الأول). وإمعانا في تبرير اختياره للعنوان، قال ياسين عدنان لـ«الشرق الأوسط»: «جاء العنوان ليفصح بشكل واضح بسيط عن طبيعة هذا الكتاب ومضمونه. إنه كتاب عن السفر ومحطات العبور. كنت سأسميه (كتاب العابر) لولا أنني وجدت توصيف الدفتر أكثر حداثة وأقل ادعاء».

ويمكن القول إن اختيار الدفتر قد جاء أكثر ملاءمة لأجواء السفر والعبور، حيث بدا أقرب إلى أجواء القصيدة الحديثة من الصحيفة أو السفر. فالكتاب اسم لما كتب مجموعا. وهو ما صاره، فعلا، هذا الدفتر في النهاية كما نقرأ في آخر مقاطع الديوان: «أهذا كتابك؟، أين يمينك إذن؟، أهذا كتابك؟ اتله غيبا، أكتابك؟، أم جذوة السفر، خبت في روحك، يا جَوَّابَ الآفاق؟».

يستعيد «دفتر العابر» سفريات شعرية قام بها الشاعر إلى مجموعة من البلدان، في أوقات مختلفة، تفرق بينها المسافة واللحظة والغاية، لكنها تتفق في معظمها على الرؤية للعالم التي تصدر عن الشاعر. ويمكن القول إن الشاعر قد توفق في وضع القارئ في سياق أسفاره ورحلاته، هو الذي يعرف بقدرته الكبيرة على الكتابة نثرا وشعرا، اختار أن يسرد سفرياته شعرا، من دون توقف، لذلك لم يصدر «دفتر العابر» كمجموعة قصائد يضمها كتاب، بل كتاب، نص وقصيدة، ديوان.

وكان ياسين عدنان قد شرع في كتابة «دفتر العابر»، في إطار ورشة إبداعية جمعته مع فنان تشكيلي فرنسي بمراكش في مارس (آذار) 2007، وتم الانتهاء منه في أغسطس (آب) 2011 خلال إقامة أدبية في كاليفورنيا. أي أنه ديوان يلخص لأزيد من أربع سنوات من الكتابة والسفر المتقطعين لم تفقد الكتاب نفسه الشعري المسترسل، حتى لكأنه يبدو كما لو كتب دفعة واحدة.

يتقاسم الشعر والسرد الأدوار في ديوان ياسين عدنان، دونما تفريط في الموسيقى التي تضبط الإيقاع: «قلت: سلاما مانشستر، سأغادر فجرا، كان السائق الإثيوبي الناحل دمثا، ورفيقا بي، بأمتعتي، بمزاجي الهش كبلور مكسور، اقترح القرآن بترتيل عذب لمصري مغمور، وظل يناديني طوال الطريق: أخي، عن كسكس أهل المغرب في مساجد أمستردام حدثني، - عاش هناك سنين أربعا -، عن مطعم كازابلانكا في مانشستر، عن الكنائس المهجورة في هذه البلاد، - لو أن المسلمين اشتروها أخي وحولوها إلى مساجد؟، كان فخورا بهجرة النبي الأولى إلى ديارهم، ذكرت اسم النجاشي فانفرجت أساريره»

تحدث ياسين عدنان في دفتره عن الوجهات التي قصدها، فكتب عن المدن التي لا تلوح بالمناديل في المطارات، ولا تستقبل الزوار بالأحضان، فقال عنها إنها إسمنت، زجاج بارد وحديد، وإنها غير الأوطان، فيما صالات الترانزيت تكذب يوميا على الغرباء. وكتب عن القطارات، وعن «الكنزات والسراويل المنشورة في البلكونات» التي تبدو من شرفة القطار «مثل أجساد مسحوبة من أرواحها، معرضة لعبث الطير، لريح الانتهاك».

المدن ومحطاتها في «دفتر العابر» تتبادل الأدوار. في الطريق إلى استوكهولم، «حتى الخيول ترتدي المعاطف»، والسماء «صخرة غامقة صماء». أما سائق سيارة الأجرة أمام باب المطار فمستعد لكل المسافات دون أن يجد نفسه ملزما بالابتسام في وجهك.

وفي قلب هذا المشهد المعدني، ورغم البرد والجليد، يصر شاعرنا على أن يبدو بشوشا غير مستعجل. وفي مطار فرانكفورت: «كنا نتقدم باتجاه الشرطة، عبر الممر الضيق، حقيبة، حقيبة، والكلاب تتسلقنا، واحدا واحدا، أطفال الجنوب، أبناء المغاربة، يصرخون، أما الألمان – صغارهم – فعانقوا الكلاب».

أما في مطار شيكاغو فرأى الحرير يصير حديدا، والابتسامة تستحيل زجاجا على محيا شرطية المطار، التي بدا أمامها الشاعر العابر كأنه صيد الصدفة.. كأنه لعنة ضالة.

حين سيصل شاعرنا إلى أرض الأندلس، سيكتب: «لست غريبا، كأني من هنا مررت، حلما أو خلسة» لكنه، سيحزن كثيرا في قرطبة لأن باميلا، البائعة المغناج، «لا تتحدث غير الإسبانية ولا تعرف ابن زيدون». أما هو فقد حرص على استحضار ابن زيدون وابن خفاجة وابن زمرك وكل شعراء الأندلس في غاراته الشعرية الأندلسية.

يقول: «أسلافي يندسُّون، بين حشائش روحي، ومحفوظاتي من الشعر الأندلسي، وموتاي بعثوا بغثة »

لكن في مدن أخرى ستبعث حيوات أخرى داخل جسد الشاعر وقصيدته. ففي باريس سيخبرنا ياسين عدنان أنه كان نبيلا ذا شعر أشقر، وفي بروكسل عازف جيتار في مترو الأنفاق، وأنه نزل في غرناطة في دارة قديمة، قبل أن يصاعد في آيسلندا أعمدة من رماد. لكنه سيتمثل للملائكة، في ما بعد، على ضفة الراين، بومة ثلج لشياطين شجرة، ويتم، في مالمو، قصيدة في مقبرة، قبل أن يصل إلى نتيجة أنه كلما خلا بأرض اكتشف لنفسه روحا جديدة وعمرا قديما. إنه تناسخ شعري يجعل الشاعر يمتد في الزمان والمكان ويتعدد لتصبح القصيدة سبيله لمضاعفة الحياة.

«دفتر العابر» ديوان شعري سيسيل كثيرا من المداد. فهو علامة فارقة في مسار ياسين عدنان. إنه ثامن إصدار أدبي للشاعر،والرابع في لائحة دواوينه الشعرية، بعد «مانيكان» الصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 2000، «رصيف القيامة» عن دار المدى بدمشق 2003، و«لا أكاد أرى» الصادر عن دار النهضة ببيروت سنة 2007. والحقيقة أن ياسين عدنان فاجأ الجميع بعودته القوية إلى المشهد بهذا الديوان خصوصا أن كثيرا من أصدقاء تجربته كانوا يظنون بأن انشغالاته الإعلامية قد سرقته من الشعر، باعتبار إشرافه على إعداد وتقديم البرنامج الثقافي «مشارف» الذي يبثه التلفزيون المغربي (القناة الأولى) بوتيرة أسبوعية منذ أزيد من ست سنوات. مع العلم أن الشاعر يشتغل في مجال الصحافة الثقافية منذ عقدين من الزمن، حيث سبق له أن ساهم في إطلاق مجلة أدبية من مراكش سنة 1991 تحت عنوان «أصوات معاصرة»، قبل أن يشكل بفقة سعد سرحان ورشيد نيني وطه عدنان جماعة «الغارة الشعرية» التي اعتبرت تكتلا للحساسية الشعرية الجديدة في المغرب خلال التسعينات.