تحولات القزم الخرافي

مستوى دوريس ليسنج يتراجع في الجزء الثاني من كتاب «الطفل الخامس»

TT

قبل 12 عاماً، كتبت دوريس ليسنج حكاية رعب مفزعة بعنوان «الطفل الخامس»، وهي قصة طفل يولد في عائلة لندنية من الطبقة الوسطى يدعى «بن» ويبدو الطفل أشبه بالقزم الخرافي المرعب، ساكن الجبال، في غرابة سلوكه وطبعه، ويتكشف عن شخصية قبيحة للغاية، فهو يقتل كلب العائلة، ثم قطتها، ويعذب اخوته واخواته، ويوقع الاضطراب في الحياة السوية للعائلة.

أما الكتاب الثاني المكمل لهذا الجزء، وهو بعنوان «بن في الدنيا». فيبدأ السرد وبن عمره 18 سنة، مستقل بذاته، يجوب شوارع لندن.

ويبدو لنا الآن مثل ساكن الكهوف، رجلاً يقع فريسة ثورات غضب جامح، وقاس. فهو يفتك بالطيور التي يمسكها بيده العارية، ويتميز بميل إجرامي، يحتدم كلما شاهد أحد اخوته في المنتزه.

مع ذلك، فإن «بن» هذا لا يرتكب من المعاصي قدر ما ترتكب معاصي ضده! كان «بن» في الجزء الأول مصدر كل الإزعاج والاضطراب، أما في المجلد الثاني فهو الضحية، موضع سخرية الآخرين وأذاهم، لمجرد انهم لا يقبلون تميزه الفردي.

ويختلف الكتابان ايضا من حيث أسلوب معالجة الحكاية. ففي الجزء الأول أبدعت ليسنج توازنا كاملاً بين التفصيل الطبيعي، والاستعارات الأسطورية. وكان إحساس القارئ بالرعب يتولد بدرجة كبيرة من خلال الإيحاء بأننا إزاء مخلوق مفزع، غامض، يعيش في عالم اعتيادي، مألوف لدينا. لكأننا بحضرة الوحش فرانكشتاين، وقد حل بين ظهرانينا في لندن ـ أو نيويورك ـ وراح يدخل المدرسة مع أولادنا وبناتنا.

أما الجزء الثاني «بن في الدنيا»، فهو أقرب إلى حكايات الجن، وإلى الأساطير والخرافات، وهي حكاية غير مشوقة كثيراً. فالشخصيات الثانوية كلها ـ بما في ذلك المومس التي قلبها من ذهب، والعالم الشرير، من طراز الدكتور منجلة الذي يريد إجراء تجارب غريبة على «بن» ـ هي إما شخصيات طيبة، رائعة، تريد مساعدة البطل، أو شخصيات شريرة، نذلة، تريد استغلاله. لكن لقاءات «بن» مع هؤلاء ذات طابع تصادفي، وتهدف إلى تصوير ردود أفعال المجتمع إزاء أفراد لا يمتثلون لقواعده.

ولما كانت الأحداث في هذه الرواية القصيرة لا توحي بأنها حقيقية، وكانت كل الشخصيات مفتعلة، ومصطنعة كأنها جبلت من خشب، فإن القارئ لا يشعر بالعطف على الشخصيات ولا بالخوف منها، فكل ما هنالك هو إحساس بالضيق.

ان كتاب «بن في الدنيا»، يشير مثل آخر رواية «مارا ودان»، ان المؤلفة ليسنج تمر بتطور غريب في أدبها الروائي، تنتقل بصورة اعتباطية من الرؤيا العظيمة والتفصيل السيكولوجي الدقيق إلى السرد البدائي، المنصبّ على إثارة الفزع.

الواقع ان حكاية «بن في الدنيا» لا تزيد عن سلسلة مغامرات مفتعلة تدفع بالبطل للارتحال من إنجلترا إلى فرنسا فالبرازيل. في لندن نراه يلتقي امرأة كبيرة السن وعطوفاً، تؤويه في بيتها بعيدا عن متاهة الشوارع، وترعاه. بعد ذلك يتعرف على بغي وسمسارها، ويحاول السمسار استغلاله فيخدعه ليقوم بدور شريك في صفقة مخدرات دون علمه: يعطيانه حقائب ملأى بالكوكايين، ويرسلانه في طائرة إلى نيس (فرنسا)، حيث يلتقي هناك أحد أصحابهما.

وفي نيس، يلتقيه مخرج سينمائي يريد أن يقدم «بن» في فيلم بدور نياندرتال من كوكب آخر. ويصطحب المخرج بطل الرواية «بن» معه إلى ريو دي جانيرو، حيث تصادقه بغي سابقة. وتضطر هي وأصحابها إلى إنقاذ «بن» من براثن عالم شرير اختطفه لكي يجري عليه تجارب في مختبره البعيد، السري. وتذكرنا المؤلفة بأن العالم وليس «بن»، هو الوحش الحقيقي، وحش القسوة.

وتصف المؤلفة بإسهاب قساوة العالم الذي يحبس «بن» في قفص مثل الحيوان، كما انها تسهب ايضا في وصف مظهر «بن» وسلوكه الشبيه بالحيوان. فهو ينبح مثل الكلب أثناء معاشرة المرأة، أو ينشج في نومه. وكثيرا ما تعيد وصف كثافة الشعر في جسمه، وشدة حاسة شمه، وحبه الكبير للحم النيء. وتصف كيف يبغض الخبز وكل طعام يخلو من اللحم، فاللحم هو مبتغاه، يحبه مثلما يحب رائحة الدم الطري، فيسيل لعابه. وهو يدخل مثلاً دكان قصاب لمجرد أن يشم رائحة اللحم الطازج، فتمتد يداه دون سيطرة منه لمسك الذبائح.

مثل هذا الوصف يجعل من «بن» مخلوقاً غريب الخلقة، لا يتمتع بشيء سوى الحوافز والافعال الغريزية، ولا تبذل الكاتبة أي جهد لوصفه كشخصية ذات مدارك، وتصورات. والواقع انها لا تصف الشخصيات الأخرى إلا بشكل عابر ومحدود، وكثيرا ما تذكر مصائرهم بشكل مهمل، في جملة أو جملتين.

وتحفل الرواية بنهايات سعيدة. فمثلا أن البغي وسمسارها اللذين يهربان الكوكايين يصيبان ثراء واسعاً ويصبحان من أرباب الأملاك الموسرين، أما البغي البرازيلية فتتزوج صديقها لتبدأ حياة جديدة.

أما بالنسبة إلى «بن»، فإن المؤلفة تختلق له مصيراً مستحيلاً قدر ما هو متوقع، وهي نهاية تناسب، على نحو ما، حكاية مهلهلة، مكتوبة بأسلوب رديء، فكيف وصلت روائية قديرة إلى هذا المستوى! الكتاب: «بن في الدنيا» المؤلفة: دوريس ليسنج منشورات: هاربر كولنز 178 صفحة السعر: 23 دولاراً (خدمة نيويورك تايمز خاص بـ «الشرق الأوسط») =