لغة القرآن.. إعجاز أم مجرد بلاغة؟

محاولة علمية جادة لأحمد بسام ساعي في كتابه الجديد «المعجزة»

TT

«هذا الكتاب من أهم ما قرأت في تحدي القرآن الكريم بلغته ولسانه، منذ أن نشر الرافعي كتابه (تحت راية القرآن الكريم)، وإذا أردنا الدقة والإنصاف فإنه يمتاز على ما كتب الرافعي ومن جاء بعده بمزايا كثيرة، ولا أجد فيما اطلعت عليه من دراسات في مجالات التحدي والإعجاز كتابا يجاريه ويقترب منه، بعدما كتب الكاتبون في أواخر القرن التاسع عشر والقرن الماضي في الإعجاز والتحدي اللغوي ما كتبوه».

بهذه الكلمات قدم الدكتور طه جابر العلواني لكتاب الدكتور أحمد بسام ساعي الجديد «المعجزة» الذي صدر الجزء الأول منه في الشهر الماضي عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن في 358 صفحة.

والكتاب كما يوضح الخط الثاني من عنوانه «إعادة قراءة للإعجاز اللغوي في القرآن الكريم»، وهو محاولة علمية جادة للبرهنة على أن معظم ما كتب في الإعجاز اللغوي حتى الآن، إن لم يكن كله، يدخل في باب البلاغة والفصاحة والعبقرية والجمال وليس في باب الإعجاز، والصفات التي وصف بها اللغويون والبلاغيون لغة القرآن الكريم، من تفوق وفصاحة ودقة وإيقاع وبلاغة وتفرد، يمكن أن يدخل تحتها كثير من العباقرة من أدباء البشر، والفرق كبير بين العبقرية والإعجاز.

ويحاول الدكتور ساعي أن يرسم الحدود الفاصلة بين نوعين من التفوق اللغوي، الإلهي والبشري، وذلك من خلال إثباته، بالتحليل اللغوي والعلمي، أن لغة القرآن الكريم، رغم أنها عربية وتستند إلى القواعد والجذور العربية، هي لغة جديدة كليا ومختلفة عن لغة العرب، قبل الإسلام وبعده، بل تختلف تماما عن لغة النبوة أيضا، بكل عناصرها اللغوية والبلاغية: اللفظ، التركيب، السبيكة، الجملة، الصورة، الروابط، العلاقات اللغوية، استخدام الأداة النحوية، الإيقاع.

ويؤكد المؤلف أن هذا الاختلاف لا يقتصر على لفظة هنا أو تعبير هناك، فالإعجاز الحقيقي يتمثل في كثافة المواقع اللغوية الجديدة في القرآن بحيث يتجاوز عدد هذه المواقع في كل سورة عدد كلمات السورة. ففي سورة «الفاتحة» وعدد كلماتها 29 يكتشف المؤلف 58 موقعا لغويا جديدا لم يعرفه العرب قبل القرآن، وفي سورة «الناس» وعدد كلماتها 20 يكتشف 33 موقعا، وفي سورة «الفلق» وعدد كلماتها 23 يكتشف 38 موقعا، وهكذا في سائر السور.

يقول المؤلف شارحا لطبيعة الكتاب: «لقد وضعوا لفظ (الإعجاز) في عناوين كتبهم، ولكنهم في حقيقة الأمر لم يتحدثوا إلا عن البلاغة والروعة والجمال والدقة في التعبير، وهذه كلها صفات قد نجدها، على تفاوت، في آداب البشر مهما اختلفت لغاتهم وتباينت أجناسهم. فكم هناك من عباقرة وأقلام وألسنة وعقول سحرت العالم بإبداعاتها، وحيرت النفوس بفنها، فكان أن وصفها قومها بأي صفة، ولكن ليس بصفة الإعجاز، فلماذا نصر على أن نخص القرآن الكريم وحده بهذه الصفة، وأين هو الإعجاز فيه إذا كان تعريف الإعجاز حقا هو: ما لا يقدر عليه بشر، أي بشر على الإطلاق؟ نعم، قد يكون في هذه الجوانب التي درسوها مجتمعة ما يصب في النهاية في بحر الإعجاز، فيعمقه ويوسعه ويخصبه ويغنيه، ولكن هذا لن يكون كافيا، وفي عصر لم يعد يؤمن إلا بالأرقام، لتشكيل ذلك اللغز الصعب والمستحيل الذي يسمى (إعجازا). عندما نكتشف كثافة المواقع الجديدة التي شحنت بها الآيات والسور، ونعرف كيف تتوالى الواحدة إثر الأخرى دون توقف ولا تنفس ولا استراحة ولا فجوات، وكيف تختفي تحت كل كلمة أو تركيب أو عبارة أو سبيكة قرآنية، وفي تضاعيفها وخلف أثوابها، واحدة أو اثنتان أو ثلاث أو أكثر من عجائب التجديد اللغوي وأشكاله وألوانه، عند ذلك سندرك حقيقة الإعجاز اللغوي القرآني واستحالته على التقليد أو التزييف».

ويقول المؤلف في موقع آخر: «إن عملنا في هذا البحث ما هو إلا محاولة لإيجاد نظارات خاصة نضعها بين يدي قارئ القرآن، ليتخلص، بنظارتيه الجديدتين، من تأثير الألفة التي تقتل قدرته على رؤية الإعجاز التجديدي في لغة القرآن الكريم، وليفاجأ، وهو ينظر إلى هذه اللغة من خلال العدستين الجديدتين، باكتشاف أسرار وحقائق لغوية وبيانية لا حدود لها، ولم يكن يدري عنها شيئا من خلال قراءته التقليدية».

ويولي المؤلف عناية خاصة في مختلف فصول الكتاب بالمقارنة بين لغة القرآن الكريم ولغة الحديث الشريف، فضلا عن لغة الشعر الجاهلي، ليثبت في النهاية، ومن خلال الأمثلة الكثيرة والتحليل اللغوي المستمر، استحالة اختراق اللغة القرآنية أو تزييفها أو تقليدها، في حين تم اختراق لغة الحديث الشريف، على بلاغتها وتفردها وتفوقها على النصوص البشرية الأخرى في تراثنا، اختراقا لا يزال يعاني منه المحدثون وهم يحاولون تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة أو الموضوعة.

الكتاب في جزءين، يرصد الجزء الأول الظواهر اللغوية والبلاغية الجديدة في سور القرآن عامة، على حين يفصل الجزء الثاني، الذي يصدر لاحقا، الحديث عن بعض أهم السور تداولا في حياتنا اليومية، وهي السور العشرون الأخيرة من القرآن الكريم، إضافة إلى سورة الفاتحة، ليدرس في كل منها دراسة تطبيقية موسعة تلك الظواهر اللغوية والبلاغية الإعجازية الجديدة التي عرضها في الجزء الأول.

في نهاية تصديره للكتاب يلخص الدكتور العلواني الموقع الذي يتوقع أن يحتله «المعجزة» في مكتبتنا العربية المعاصرة بقوله: «إنه كتاب يصلح أن يكون مرجعا في دراسات التفسير وعلوم القرآن، ومرجعا في قضايا البلاغة والفصاحة والأدب، بحيث تستفيد منه كل تلك الفئات التي اضطر الكاتب إلى تجاوزها والانفلات من قيودها التي لم تبن على لسان القرآن؛ من اللغويين، والنحويين، والبلاغيين، والمفسرين، فهؤلاء كافة يستطيعون الاستفادة من هذا الكتاب، والاطلاع فيه على الفروق الدقيقة بين لسان القرآن واللسان العربي، قبل تجديد القرآن لهذه اللغة وبعد ذلك».