بيروت 2012 تنحاز للفنون الرقمية وتقاوم المجازر بالابتكار

لبنان.. الكتاب والمسرح مطالبان بتحري تقلبات الأمزجة

مشهد من «مقتل إن وأخواتها»
TT

اختتم العام الحالي في لبنان بمعرضين للكتاب، يمكنهما بما برز فيهما من ظواهر أن يلخصا الوضع الثقافي العام في البلاد، هما «معرض الكتاب الفرنسي» الذي بات موضع انتظار الطلاب والجيل الشاب، نظرا لتضاؤل الاهتمام بالعربية كلغة للقراءة والمعرفة. وعقد بما تيسر، في ظروف أمنية يعتبرها الفرنسيون صعبة ومع ذلك أصروا على عدم إلغائه، وهناك «معرض بيروت العربي للكتاب» الذي انتهى منذ أيام وسط انتقادات كثيرة لصيغته التقليدية التي باتت تحتاج كما قال أحد الناشرين «نفضة كبيرة» وتجديدا جذريا كي تواكب العصر. لقد بات معرض الكتاب العربي ضحية لتغيرات كثيرة يتوجب الاعتراف بها. فمن ناحية هناك الوضع الأمني الذي حال دون حضور الكثير من المشاركين أو الزوار العرب، وثمة جيل كامل بات لا يقرأ في لبنان، وإن هو قرأ فإنما بغير لغته الأم وهذه قضية شائكة. أضف إلى ما سبق، تعدد المعارض في العالم العربي، بحيث بات لكل دولة معرضها الذي تستثمر فيه الحكومات بسخاء، في ما يبقى المعرض اللبناني شبه يتيم من حيث التمويل والدعم الماديين. ويحسب للناشرين اللبنانيين أنهم رغم الظروف القاهرة، هذه السنة سعوا بكل جهدهم لتقديم الجديد. فمعرض بيروت للكتاب بالنسبة لهم هو المناسبة التي يدخرون لها أفضل ما عندهم من نتاج. وكثرة حفلات التوقيع تشي بأن الجهود المبذولة لم تكن بالقليلة. والحق يقال إن بيروت في النصف الأول من السنة لم تكن كما في النصف الثاني منه. فزخم الأنشطة الثقافية كان لافتا قبل حلول صيف شابته مخاوف من تطورات مفاجئة بسبب الأوضاع المتفجرة في سوريا.

ما يصيب الكتاب من محن، ليس بعيدا عن المسرح، الذي لا يبدو بأفضل حالاته لصالح الحفلات الغربية التي تقام لكبار المغنين والفرق العالمية، فمن «ستينغ» إلى «كين» و«بيت بول» و«ريد هوت تشيلي بأبرز» وفرقة «ستونب» الإنجليزية وغيرها، لا يبدو أن المخاوف الأمنية تمس هذه العروض الكبرى ذات التكاليف العالية، والتذاكر المرتفعة الثمن، التي يدفع ثمنها الجمهور العريض بصدر رحب، ويقبل عليها بكثافة. ومن هنا يمكن القول إن أزمة الكتاب التي تدخل مرحلة جديدة في عصر الثورات، كما أن أزمة المسرح لا يمكن إعادتهما فقط إلى ضيق ذات اليد، بقدر ما يتوجب القول إن نتاج المطابع المسارح لم يعد من أولويات المستهلكين الثقافية، في حين تظهر أشكال فنية وأدوات معرفية أكثر جاذبية وأكبر شعبية، وهذا ما اختبرته بيروت هذه السنة. وبمقدورنا العودة إلى أنشطة كثيرة يصح اعتبارها نموذجا لثقافة جديدة تستولدها بيروت، وتحتضنها، شارك فيها الشباب بشغف. من هذه الأنشطة «قمة عرب نت الرقمية»، وهي عبارة عن مؤتمر جمع للسنة الثالثة على التوالي عشرات القياديين المعنيين بالمشاريع الإنترنتية من ثقافية وتجارية، ليقدموا ابتكاراتهم في هذا المجال، ولتشجيع الشبان الصغار على عرض أفكارهم ومساعدتهم على تمويل مشاريع طموحة. أما مؤتمر «شارك» الذي جمع ما يقارب 1500 شخص من بلدان عربية وأوروبية، جاءوا يقدمون فنونهم من شعر وموسيقى ورسم وأفلام فيديو، وتصوير فوتوغرافي، وغناء ورقص مستخدمين أحدث التقنيات الرقمية، فهؤلاء قدموا أنفسهم على أنهم المكمل للثقافة التقليدية وإضافة عليها. وللمرة الأولى ليس فقط في بيروت، وإنما أيضا في العالم العربي أقيم معرض لفن الغارفيتي في مكان مغلق، لتسليط الضوء على هذا الفن الهامشي وتقديمه للجمهور على أنه جزء من الحركة الفنية المعترف بها، من قبل أصحاب الغاليريات، وطلب من المشاركين الرسم على جدران الصالة التي استقبلت الحدث، كما تم طلب تراخيص للفنانين ليزينوا بعض جدران بيروت، بشكل رسمي، وليس تحت جنح الظلام، كما هي عادة فناني الغارفيتي. مما سمح للجمهور التقاء الفنانين والتحدث إليهم والتعرف على طبيعة هذا الفن.

بقيت بيروت إذن، هذه السنة على عادتها، شغفها بكل جديد وحداثي لم يتوقف أو تفرمله الثورة السورية ومجازرها المرعبة. بيروت المكابرة التي تغلبت على 17 سنة من الاقتتال في شوارعها وأزقتها، لم تثنها الحرب السورية عن اكتشاف آخر المستجدات الفنية.

«مهرجان الرقص المعاصر» كان باهرا، قدم فرقا عالمية افتتح برقص الأصابع الفريد للبلجيكيين المعروفين جاكو فان دورميل وميشال آن دوماي، المستوحى من تقنية النانو واختتم برقص ديجيتال بديع للياباني الماهر هرواكي أوميدا.

سجل اللبنانيون اختراقا آخر هذا العام ليس من خلال قدرتهم على جلب آخر المبتكرات الفنية إلى عاصمتهم، ولكن أيضا المشاركة في صناعتها، فبعد 4 مسلسلات إنترنتية، الأولى عربيا، وهي «بيروت آي لاف يو»، «ممنوع»، «شنكبوت»، و«فساتين» وبعد أن حصد الأخيران عشرات آلاف المشاهدات، يمكننا القول إن لبنان الذي كان ولا يزال رائدا في مجال فن الفيديو كليب بمقدوره أن يكون ابتكاريا وخلاقا في مجالات السمعي البصري على أنواعها حين تتوافر التمويلات. وفيلم «كاش فلو» الذي اقترن بعبارة «لبناني 100 في المائة» للقول إنه أنجز بتمويل لبناني صغير، وجد ترحيبا واسعا من جمهور غالبا ما أدار ظهره للنتاجات السينمائية العربية لصالح الصناعية السينمائية الهوليوودية.

الجمهور كان أيضا على موعد مع الفنون التقليدية، ومن المفاجآت الجميلة، نهاية السنة، عودة المسرحي المخضرم ريمون جبارة بمسرحية تحمل اسم «مقتل إن وأخواتها» وكانت مناسبة ليتعرف الجيل الجديد على هذا الرائد المسرحي الساخر بمرارة من الواقع، ويستمتع بنص ينتمي إلى الكوميديا السوداء التي عرف بها جبارة. وعلى المسرح قدمت أيضا بتي توتل هذه السنة مسرحية جديدة بعنوان «الأربعاء بنص الجمعة» واصلت فيها التقاط كاريكاتيرات طريفة في مجتمع لبناني متناقض، كما أعاد جواد الأسدي مسرحيته الشهيرة «الخادمتان» لجان جينيه. ولعل المسرحية التي لفتت الأنظار هذه السنة لا لأهميتها ولكن لأنها اعتمدت، وهذا جديد في المسرح اللبناني، على نجوم تلفزيونيين وموضوع خفيف ظريف يبدو أنه مما بات يستهوي الجمهور، هي مسرحية «ريزنز تو بي برتي» للمخرج جاك مارون وشاركت في تمثيلها نادين لبكي. ورغم أن المسرحية تجاوزت أسعار دخولها المتعارف عليه، فإن التمديد كان من نصيبها والإقبال حليفها. وهو ما يستدعي التساؤل حول المزاج الجديد للجمهور المسرحي اللبناني، دون التعصب لشكل مسرحي بعينه أو مدرسة بذاتها.

أرادت بيروت ولسنة جديدة أن تعيش زخمها الثقافي، محاولة قدر الممكن تحييد نفسها عن الثورات العربية وانعكاساتها. وإن بدا أن النصف الأول من السنة تمتع بحيوية لافتة، وأنشطة كثيفة، فإن النصف الثاني ومع اشتداد تأثير الثورة الدموية السورية سياسيا واقتصاديا، وبشكل خاص أمنيا، على لبنان، تباطأت الحياة الثقافية، وإن بقي الفاعلون في المجال حريصون على حركة الحد الأدنى.

اللافت أن المنظمين الأساسيين للمواعيد السنوية على الخارطة الثقافية، لم يخلفوا موعدهم مع الجمهور بدءا من «مهرجان البستان» الموسيقي السنوي الذي استضاف بشكل أساسي موسيقى أميركا اللاتينية، مرورا بمهرجان «بيت الدين» الذي قدم «فرقة كركلا» بعمل جديد حمل عنوان «كان يا ما كان» ومجموعة من الحفلات الأخرى منها رائعة «لا بوهيم» لبوتشيني، كما بقيت «مهرجانات جبيل» على إصرارها في تقديم فرق أجنبية كبيرة تستهوي الشباب مثل «سلاش» و«سنو باترول»، وبدا «مهرجان بعلبك» الحلقة الأضعف بسبب وقوعه تحت ديون السنوات الماضية. ولم يثن عدم حضور السياح العرب إلى لبنان المنظمين للمهرجانات، الذين وجدوا بعد الإقبال الكبير للبنانيين على حفلاتهم، لا سيما المغتربين منهم، «إن جحا وأهل بيته عرس»، كما قال البعض، ولا مجال للتراجع عن هذا التقليد السياحي اللبناني في أي حال، طالما أن الوضع الأمني يسمح بذلك.

وإن كانت غاليريهات الفن التشكيلي قد استضافت الفنانين المحليين كما استضافت أعمالا عالمية، كان أشهرها للألماني غيرهارد ريختر، الذي حضر شخصيا إلى لبنان رغم كبر سنه، وشارك في لقاء مع الجمهور، يبقى «آرت بيروت» المحطة التشكيلية الأبرز هذه السنة، حيث قدم للسنة الثانية، آخر مبتكرات الفنانين اللبنانيين التشكيليين والعرب واستضاف دولا أجنبية وخبراء واعتبره المنظمون نجاحا كبيرا بعد أن أحصوا 11 ألف زائر، ومبيعات قالوا إنها تجاوزت توقعاتهم.

ليست بيروت في أحسن حالاتها بالتأكيد، فما بين الثورة السورية والأزمة المالية، يتحرك المثقفون اللبنانيون بشيء من الحذر. لكنك حين تسألهم يقولون لك: «ليس لنا من خيارات سوى الاستمرار في العمل. ولبنان من دون حركة ثقافية يفقد دوره ويستسلم للفراغ».