غورباتشوف ينظر إلى الماضي بغضب

هل كان بالإمكان ظهور حزب اشتراكي ديمقراطي قادر أن يكون نداً للحزب الشيوعي؟

TT

من المعروف ان «التفكير الحديث» لسياسة عصر غورباتشوف كان نتاج مجموعة من السياسيين الروس ممن كانوا يطمحون الى تطوير الافكار السياسية والاقتصادية على امتداد فترة طويلة من الزمن. وحينما كان السكرتير العام الجديد للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف مستعدا ـ وحتى قبل ان يصل الى قمة السلطة ـ للاصغاء الى هذه المجموعة واستخدام موقعه الاداري لكي يمنح هذه الافكار قوة ودفعا، حدث تحول فجائي وحاسم في كل من الاتحاد السوفياتي وعلاقاته مع العالم الخارجي. كانت نقطة التحول الحاسمة تلك انعقاد الكونغرس التاسع عشر للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي صيف عام 1988. ومع ان بوريس يلتسين كان في تلك الفترة عضوا في اللجنة المركزية إلا انه كان معتماً عليه ولم يلعب اي دور يذكر في صياغة القرارات والاحداث السياسية آنذاك.

اخذ غورباتشوف يدفع خلال هذا الكونغرس بالقرار الذي يلزم مناقشة ورقة اجراء انتخابات هيئة تشريعية جديدة. كانت هناك في الواقع منافسة شديدة بين المرشحين في الدوائر الانتخابية ربيع العام التالي. وكانت مواقف غورباتشوف في شرعية النزاعات السياسية والمنافسة الانتخابية واتخاذه الخطوة الاولى نحو تنظيمها قد احدثت تغيرا كبيرا في الاتحاد السوفياتي الى حد تصعب فيه العودة الى طبيعته السابقة. منذ تلك اللحظة لم تعد بعد مساءلة النواب تتم من قبل قيادة الحزب في موسكو وانما من قبل ناخبيهم المحليين. ومع كل السلبيات التي احتوتها فإن الهيئة التشريعية الجديدة كانت قادرة ليس فقط على توجيه النقد إلى مسؤولين ذوي مناصب رفيعة وانما ايضاً إلى رفض تسعة من الوزراء الذين رشحهم آنذاك رئيس الوزراء ريزكوف لتقليد مناصب وزارية.

التعددية في السياسة السوفياتية، ثورة المفاهيم والآراء التي قلبت الماركسية ـ اللينينية رأساً على عقب، حرية الكلام والتجمّع، التسامح الديني، منع استخدام القوة في الدفاع عن انفصال اوروبا ونهاية الحرب الباردة، كلها مكاسب جوهرية لم تكن لتحقق لولا جهود غورباتشوف الحثيثة ومساعي حلفائه. كانت هذه التحولات مفهومة بما فيه الكفاية بالنسبة للسياسيين الاوروبيين عامي 1988 ـ 1989 وكذلك بالنسبة للروس انفسهم ووجدت بها أصداء مؤثرة وكبيرة. ووفق الاستفتاء الذي اجرته منظمة الابحاث الروسية في شهر مايو (أيار) 1990 فإن يلتسين قفزت شعبيته كقائد سياسي في روسيا والاتحاد السوفياتي وذلك لأنه استطاع ان يلعب دوراً جوهرياً في منح روح صلدة وجديدة للتعددية السياسية خلال السنوات الاخيرة في العهد السوفياتي.

لكن غورباتشوف كان على نقيض يلتسين. فقد طرأ عليه تغير اساسي حيث تحوّل من شيوعي متعصب نسبياً إلى شيوعي اصلاحي، وهو ما كان عليه منذ عام 1985، ثم إلى اشتراكي ديمقراطي. كان غورباتشوف قد وصل إلى تلك المرحلة وهو لما يزل يمثل منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي. لذلك كان من البديهي ان يهاجم من قبل شيوعيين متشددين امثال ايغور ليغاشيف لتخليه عن الماركسية اللنينية لصالح الاشتراكية الديمقراطية. ان محادثاته مع مستشار المانيا الاسبق فيللي براندت وفيليبي غونزالس وكذلك مع بعض مستشاريه ومشاهده الشخصية خلال زياراته إلى اوروبا، كلها امور لعبت دوراً مهماً في تحول وجهات نظر غورباتشوف نحو الاشتراكية الديمقراطية وتعزز التزامه بموقفه الجديد هذا وتحوله السياسي خلال سنوات ممارسته شؤون الدولة القديمة، ويظهر بشكل خاص في آخر كتاب له «إلى بلدي وكل العالم» مترجماً لأول مرة إلى اللغة الانجليزية. ان بعض المواضيع «الغورباتشوفية» المألوفة التي تم التطرق إليها في هذا الكتاب ايضاً مثل مساندة غورباتشوف للأمم المتحدة توافق وجهات نظر الدول في مواجهة تحديات المعضلات العالمية، وصحة افكار سنوات «البروسترويكا» الجديدة ثم التحولات التاريخية الحاصلة.

وعن سنواته في السلطة يذكر غورباتشوف بعض المعلومات التي رغم انها نشرت في روسيا سابقا إلا انها لم تنقل الى لغات اخرى، منها مقتطفات من محاضر اجتماعات المكتب السياسي، كذلك هناك مقال مطول عن ثورة اكتوبر وموضوع عن نوعية النظام الذي اقيم في الاتحاد السوفياتي السابق. وفي بعض الاحيان تظهر خلال الكتاب اشارات يبدو فيها غورباتشوف وكأنه اراد ان يكسب مواقفه داخل الحزب كما كان يفعل لينين في بداية العشرينات حينما كان يريد اجراء اصلاحات معينة بل يبدو اكثر من لينين ميلاً إلى الإصلاح. لكن المعروف عن غورباتشوف أنه توقف ومنذ فترة طويلة عن محاربة النهج اللينيني.

وعن حقيقة تلك التغيرات التي كانت بداية تصدع وانهيار النظام الاشتراكي في اوروبا يكتب غورباتشوف عن الحزب الشيوعي السوفياتي فيقول: «في الواقع ان الحزب الشيوعي السوفياتي بدأ بالتغييرات حينما كان القادة المؤيدون لها في مركز القيادة. اضافة إلى ذلك فإن هذه التغيرات لم تكن لتبدأ على الاطلاق لو لم تأت المبادرة لها من الحزب الشيوعي السوفياتي. انها ليست مسألة مجموعة اصلاحية في قمة الحزب فحسب بل ان جزءاً كبيراً من اعضاء الحزب في القاعدة كان يفضل اجراء التغيير في مجتمعنا.. في نهاية الأمر فإن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي هي التي تحدثت عن الديمقراطية والتعددية السياسية والانتخابات الحرة وخلق نظام اقتصادي مختلط، وتغيير نظام الولايات الفيدرالية أو الجمهوريات التي تنتمي إلى الاتحاد السوفياتي وغير ذلك.

وفي عام 1990 وفي الاجتماع الثامن والعشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي قامت هذه المجموعة بالموافقة على اجراء كل هذه الاصلاحات.

لكن هناك محللين سياسيين في روسيا لهم رأي آخر في ما يقوله غورباتشوف ويشيرون الى ان الحزب الشيوعي السوفياتي «بقي حتى آخر ساعة حزبا احتكاريا غير متقبل للتغييرات او التطورات». ومع ان كلا هذين الرأيين يعارض احدهما الآخر بشدة الا ان كليهما يحمل بعضا من عناصر الحقيقة.

وفي الواقع فان غورباتشوف يقترب كثيرا من الحقيقة حينما يقول ان الدافع للتغيير جاء من خلال الحزب الشيوعي ثم تحول في ما بعد الى نهج سياسي اصلاحي متطرف صادق عليه المكتب السياسي. اما اللجنة المركزية فقد اعترضت على مقدمته وتنفيذه على الاقل خلال السنوات الاربع الاولى من عمر البيريسترويكا. ان الذي لا تظهره رواية غورباتشوف بشكل واضح هو ان كل تلك الآراء التي تتحدث عن التغيير كانت دائما تنطلق من قبل الاقلية في جهاز الحزب الذي تقبل اخيرا التغيير ولكن على مدى طويل وبشكل تدريجي. ولفترة طويلة ومن خلال الربط بين مناوراته الحاذقة والطبعة الابوية للحزب التي وجدت من الصعوبة تحدي الامين العام للحزب، استطاع غورباتشوف ان ينتزع الموافقة ويحث المسؤولين المعارضين على الاستمرار في السياسات التي كانوا متأكدين من انها كانت ضد رغباتهم ومصالحهم. وفي عام 1990 وافق مؤتمر الحزب على وثائق هي اقرب الى روح الاشتراكية الديمقراطية منها الى الشيوعية رغم ان غالبية الاعضاء الموفدين الى ذلك المؤتمر لم تكن تؤمن بها حقيقة. وفي هذا الصدد ليس بوسع المرء الا ان يأتي على ذكر ما حصل في ما يسمى بانقلاب اغسطس (آب) 1991. ليس فقط لان ذلك الانقلاب قد تم الاعداد له من قبل رئيس الدولة ومسؤولي الحزب وانما ايضا لانه لم يواجه اية معارضة لا على صعيد اللجنة المركزية ولا من قبل منظمات الحزب في الجمهوريات والاقاليم.

اذن فخلف الواجهة الصلدة المتجانسة للحزب الشيوعي السوفياتي كانت هناك اختلافات وتنوع حقيقي في الرأي واتجاهات غير متشددة في النظر الى العالم، حيث اخذت تتطور في نقاشات ودوائر خاصة ابتداء من سنوات خروتشوف وما بعدها. لم يستطع احد من المسؤولين في جهاز اللجنة المركزية ـ من ضمنهم على سبيل المثال الكساندر ياكوفليف، واناتولي جرينييف وجيورجي شاخانزاروف ـ ممن كانوا باستمرار يطورون آراء نقدية حول الآيديولوجية السوفياتية الرسمية ان يحدث ذلك الاثر الذي احدثه غورباتشوف. فهو الشخص الوحيد الذي انفتح بشكل متطرف على الافكار الجديدة وتبناها وقام بتطبيقها. كذلك ظهرت داخل معاهد الابحاث السياسية وبين فئة مثقفي الحزب آراء سياسية متطورة مهمة يتعذر على المرء ان يفهم ويستوعب التغيرات التي حدثت في النصف الثاني من الثمانينات دون الاخذ بها والنظر اليها بعين الاعتبار.

وعلى هذا الاساس فان كل التعميمات التي تطلق على الحزب الشيوعي السوفياتي ينبغي ان تستثير السؤال التالي: اي فئة من الحزب الشيوعي السوفياتي؟ بلا شك كان الحزب الشيوعي السوفياتي موطنا للقوميين والمحافظين والعسكريين. وكذلك للشيوعيين المتسلقين والاشتراكيين والديمقراطيين المنشقين. عند نهاية الثمانينات كانت وجهات النظر الكامنة هذه بين صفوف الحاملين بطاقات الحزب الشيوعي قد ظهرت الى السطح واصبح التحدث بها علنا، بالتأكيد فان كل ذلك التحول يعود الى السياسة التي مارس فيها غورباتشوف عملية الاقناع.

ان الانعطافة الاشتراكية ـ الديمقراطية التي وجدت لها في الاخير سندا ودعما من قبل اقلية «نوعية» في الحزب الشيوعي السوفياتي لم ترسخ داخل حزب سياسي من طراز جديد. لو ان هذه التغيرات حدثت في وقت ابكر من ذلك لربما كان بالامكان ظهور حزب اشتراكي ديمقراطي روسي قادر على ان يكون ندا عنيدا للحزب الشيوعي الروسي التقليدي.

=