التاريخ والاقتصاد في علاقة المغرب بأوروبا

TT

انطلق مؤلف كتاب «المغرب واوروبا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر» د. عبد المجيد القدوري من اسئلة اخذت باهتمام المهتمين بدراسة نمو المغرب بالمقارنة مع العالم الاسلامي.

وتتميز الفترة التي اراد المؤلف تناولها بالسعة التاريخية. فهي تبدأ مباشرة بعد المد الإيبيري على السواحل المغربية كتدشين لمرحلة التوسع الاوروبي واستغلال العوالم الأخرى. فقد بدأت هذه القارة تستحوذ على المبادرة، في حين دخل العالم الاسلامي بداية الانكماش. وعوضا عن ان يبقى المغرب متخذا الجهاد الهجومي في علاقاته بأوروبا اصبح مكتفيا بالجهاد الدفاعي الهادف الى صياغة الكيان والهوية. وتنتهي الفترة الدراسية بنهاية القرن الثامن عشر وبنهاية تجربة السلطان محمد بن عبد الله التجديدية، ولما أثارته هذه الشخصية من تساؤلات اعتبرها بعض الباحثين شخصية فريدة في نوعها قامت بدور طلائعي في التجديد والاصلاح.

واعتمد المؤلف المدى الطويل في هذه الدراسة من أجل تتبع المراحل التي تمت فيها محاولات التجديد بالمغرب من أجل ابراز خصوصيات كل مرحلة وادراك ما إذا كان الجديد مستمرا ومتراكما أم انه كان يتميز بالانقسامية والتقطع وان كل تجربة كانت تتوقف بموت المسؤول عن ابداعها.

ويتساءل المؤلف: «ما العوامل التي حالت دون «تقدم المغرب» وهل يجب البحث عن هذه الاسباب في التأثيرات الخارجية أم انها توجد مدفونة في ذاتنا؟ وأي تاريخ نريد ان نكتب وكيف؟ هل نستطيع التأريخ للمغرب بمعزل عن تاريخ العالم العربي والاسلامي؟ ثم كيف نقرأ التراث المغربي بصفته جزءا من التراث الاسلامي؟».

مرحلة الجهاد يعتقد المؤلف ان التجاوز يندرج في مستويات وابعاد لعل اهمها البعد المنهجي الذي يبقى متمركزا في الذات الاوروبية وعليها. ويؤكد ان الدراسات المنجزة في الموضوع تعتمد المرجعية الاوروبية. ولهذا يوظف مفهوم «العقلنة» لتبيان واحتواء التقدم، فتلصق الدراسات هذه المفاهيم بأوروبا، في حين تحاول إلصاق «التأخر» والتراجع بالاسلام. فبقدر ما يشكل العقل ـ حسب هذا الاتجاه ـ محور الذات في اوروبا، يحاول ان يظهر ان الحقيقة عند المسلمين تكمن في الاعتقاد بالله الذي هو (ذات روحية) على عكس اوروبا التي تبقى ذاتا مادية بالأساس. فإلى اي حد يمكن قبول هذا الطرح؟ علينا ألا نتصور ان اوروبا ذات متراصة تميزت بالعصرية والحداثة والعقلنة على الدوام كما هو الحال اليوم، بل على العكس من ذلك عاشت التجديد والعقلنة بالتدرج، وكانت الحداثة تتصاحب وتتزامن مع القيم والعادات الموروثة التي كانت تناهض محاولات التجديد وتجابهها.

خصص القسم الاول من الكتاب لدراسة الاطار النظري لظاهرة التجاوز، حيث وقف عند المصطلحات والمفاهيم لضبط مفاهيمها التي ترتبط بشكل أو بآخر بإشكالية الاقلاع والتجاوز، وعمل من جهة ثانية على استخراج مضامين المفاهيم من داخل المنظومة المغربية عن طريق تمحيصها ومقاربتها بما جاء في فضاءات ثقافية وحضارية أخرى. فالعقلنة المغربية قد تختلف عن مثيلتها في اوروبا بسبب المقومات الاقتصادية والاجتماعية التي تكون مسؤولة عن شحن مضمونها هنا وهناك.

وتناول في الفصل الثاني من هذا القسم المد الإيبيري وما تسبب فيه من انكماش في المغرب. وحاول ان يبين كيف دخل المغرب مرحلة الجهاد الدفاعي وتخلى عن الجهاد الهجومي، إذ كانت له المبادرة في اوروبا، ويتضمن هذا الانكماش دلالات كثيرة، لأن اوروبا زعزعت البنى الاقتصادية والاجتماعية المغربية لصالحها، وشكلت هذه المرحلة منعطفا تاريخيا. وعمل المؤلف في هذا القسم على ابراز الكيفية التي استطاعت التوسعات الايبيرية ان تفرق بها بين المغاربة، فافرزت اولئك الذين قبلوا بالاحتلال وامنوا بالتعامل مع الاجانب كما اظهرت المغاربة الذين رفضوا وعملوا على محاربته واستطاعوا من خلال هذه المواجهة الحفاظ على الهوية الوطنية.

واهتم القسم الثاني ايضا بالمجالات التي عرفت محاولات التحديث. فتناول في فصله الاول تلك المحاولات التي قام بها المولى عبد الملك السعدي لادخال المغرب في التجربة المتوسطية. ومحاولة المولى احمد المنصور الذهبي مسايرة التحولات الدولية. واما الفصل الثالث فقد خصصه لتجربة محمد بن عبد الله ولادارته الفعلية للتحديث.

بحث المؤلف في القسم الثالث في جذور العراقيل التي كانت تحول دون نهوض المغرب. وهدف في هذا القسم اعطاء تفسيرات او تأويلات للاسباب التي كانت كامنة وراء اخفاق محاولات السلاطين لتحديث البلاد. وقد خصص الفصل الاول من هذا القسم للوقوف عند الازمات السياسية التي كانت تهز المغرب خلال العصر الحديث وتتسبب في هدم كل ما كانت تشيده الاجيال السابقة لهذه الازمات (مرحلة احمد المنصور في ما يخص ازمة مطلع القرن السابع عشر، وازمة البواخر في مرحلة المولى اسماعيل). واهتم الفصل الثاني من هذا القسم بتدخل المخزن المغربي في التجارة الخارجية وتوجيهه لها بالاستعانة بالتجار الاجانب واهل الذمة. فتهميش المخزن للتجار المحليين واحتكاره لهذا القطاع كانا من العوامل التي حالت دون ظهور هذه الفئة التجارية بالمغرب، ودعم تسلط الاجانب على قطاع حيوي ومحرك لاقتصاد البلاد. وتساءل في الفصل الثالث من هذا القسم عن وجود دبلوماسية مغربية او عدم وجودها خلال الفترة التي درسها، وانتهى إلى القول بان الدبلوماسية التي كانت اداة ومؤسسة فعالة استعملتها الدولة الوطنية الحديثة في اوروبا لاكتساح العوالم الاخرى، لم ترق إلى هذا المستوى في المغرب، بل كانت هذه المؤسسة مؤشرا من مؤشرات تجاوز البلدان الاوروبية له، لان السفارة كانت مجرد صخرة في المنطق المخزني إذ ذاك، ودرس في الفصل الرابع موضوع البحث في الذهنية المغربية، ولاحظ ان البحر كان اساس النمو في اوروبا الحديثة، وبين كيف استطاعت الدول التي اولت الاهتمام بالبحر ان تسود وتقود العالم (البرتغال، انجلترا، هولندا). وتساءل عن الاسباب التي جعلت المغاربة يهملون البحر. وكان ذاك الاهمال من اكبر المصائب إلى حد قول السلطان المولى عبد الحفيظ من اهم اسباب التراجع في المغرب.

النظام التعليمي وخصص المؤلف الفصل الخامس والاخير في هذا القسم للنظام التعليمي في المغرب، فابرز فيه الارتباط الحاصل بين التعليم وتكوين اطر الدولة، وبين ان النظام التعليمي كان مسؤولا بدرجة كبيرة عن التراجع، لانه لم ينفتح ولم يستوعب التحولات ولم يساير المنعطفات العالمية، وتسبب في ترديد انساق متجاوزة وتكرارها واعادة انتاجها.

وفي الخاتمة اعطى المؤلف الخلاصات الاساسية التي توصل إليها من خلال دراسته لهذا الموضوع الشائك، فالقرب من اوروبا اثر ولا شك في المغرب، إلا ان هذا التأثير بقي محدوداً مقارنة مع تأثير وضغط التقاليد والعادات. ان المستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي عاشه المغرب إلى حدود القرن السادس عشر لا يختلف كثيرا عما كانت تعيشه اوروبا، ورغم ذلك اصبح التجاوز الاوروبي للمغرب واقعا معاشا وديناميكية مستمرة ويمكن اعتبار احتلال سبتة عام 1415 بداية المنعطف، فقد دشن هذا الحدث مرحلة المد والاندفاع الاوروبي والانكماش والتراجع المغربي. فبقدر ما ازدادت اوروبا يقينا بتفوقها، وحيويتها، بقدر ما ابتعدت عن العوامل الاخرى وعمقت الهوة التي تفصلها عنها.

حاول المؤلف خلال هذه الدراسة تجاوز الاحداث والانفعالات من اجل مقاربة العوامل الخفية المرتبطة بالذهنية المغربية قصد ادراك بعض العناصر المسؤولة عن التراجع والانكماش. واعتمد معالجة القضايا المطروحة في المدى البعيد من اجل تتبع مراحل التفاوت. ويقول المؤلف عن محاولات التحديث التي عرفها المغرب انها محاولات انعدمت فيها الاستمرارية والتراكم لانها كانت رسمية ومرتبطة باصحابها فما يكاد يغيب صاحب المشروع حتى تضيع الفكرة.

* الكتاب: المغرب واوروبا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر (مسألة التجاوز).

* المؤلف: الدكتور عبد المجيد القدوري.

* عدد صفحات الكتاب: 408.

* الطبعة الأولى: 2000.

* الناشر: المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء/ بيروت).