المثقف حين يؤخذ على حين غرة

فاضل السلطاني

TT

بعد سنتين على بداية الربيع العربي، مع الثورتين التونسية والمصرية، ما تزال الكتب الجادة التي تتناول هذا الحدث محدودة جدا. والسبب مفهوم. فهو حدث غير مسبوق في تاريخنا المعاصر، لقد اعتدنا على الانقلابات العسكرية، والانقلابات المضادة طوال خمسين عاما. وكنا ننام، ولا نعرف إذا كنا سنستيقظ على البيان الأول. تعلمنا أن البندقية هي صاحبة القرار الأول، ولم يدر بخلد أحد أن الأفواه المختومة بالشمع الأحمر، وأذرع الفتيان الغضة، والأناشيد العفوية، واللافتات الكرتونية، يمكن أن تهدد بنيانا مرصوصا بقوة القمع والقهر والإذلال. إنه شيء جديد علينا، وربما سنحتاج إلى سنوات طويلة تبعدنا عن زمن الحدث لنتأمله برؤوس باردة تحتاجها أي دراسة موضوعية، أو شبه موضوعية، لدراسة أسبابه الظاهرة وغير الظاهرة، ونتائجه، التي قد لا تكون وردية بالضرورة، وحين تنسحب الاضطرابات المصاحبة لأي عملية تغيير كبرى، سلبا أم إيجابا، متيحة للواقع الجديد، مهما كان هذا الواقع، التعبير عن نفسه ولكننا بحاجة إلى أدوات تحليل جديدة لتفسير ما حدث، إذ يبدو المثقف، كغيره من البشر، وكأنه أخذ على حين غرة بقوة هذا الزلزال وما أحدثه ويحدثه من عملية هدم أو خلخلة لبنى ثقافية تصورناها راسخة لكثرة مكوثها في الأرض.

الربيع العربي، إذا أكمل دورته المعوقة حتى الآن، هو حدث ثقافي، بالمعنى الأوسع للكلمة، فهو في جوهره محاولة تجري للمرة الأولى في تاريخنا لإعادة الاعتبار للفرد، الذي حولته الأنظمة الحاكمة من قيمة إنسانية كبرى إلى مجرد كائن هلامي بلا ملامح سوى ملامح القهر والخوف حتى من نفسه. لقد تحول الخضوع إلى قيمة ثقافية واجتماعية، تنخر في أجساد المجتمعات العربية، حتى كأنما استبطنتها، وأصبحت جزءا من وعيها الباطن. وعلى هذا الأساس، بنى الطغاة هالاتهم المزيفة، وأوصلوها إلى مصاف المقدس الذي لا يمكن المساس به. وهكذا تحولنا، حتى في أدق تفاصيل حياتنا اليومية، إلى بشر معوقين، بانتظار قرارات من فوق تحدد لنا مصائرنا، وطريقة معيشتنا، وتشكل وجداننا وعقولنا. ولأن الديكتاتور لا يمكن أن يكون ديكتاتورا، ولا أن يستمتع بهذه الصفة استمتاعا مرضيا من دون أن يسمع ليل نهار من يردد له ذلك، كان لا بد من «إيجاد الشبيحة الثقافية». هكذا فعل الطغاة في كل زمان ومكان. وللأسف، كانت حصة الثقافة العربية كبيرة من هؤلاء الشبيحة، الذين نجحوا في قبر ضمائرهم الثقافية في أعماق دواخلهم، واستبدلوا بالتنظير لقيم الجمال والحق تسبيحا ثقافيا بحق هذا الطاغية أو ذاك. حدث هذا في العراق ومصر وليبيا، ويحدث الآن في سوريا. ونأمل أن يكون ذلك نهاية المطاف.

لقد نجح الربيع العربي، ليس فقط في كشف الطغاة أمام أعيننا وهم عراة تماما، وبائسين ولا بؤس الأطفال، وليس فقط لأنه عرى قسما من مثقفيه، سواء بسبب الارتزاق أو الوعي الزائف، وفضح هزالة خطابهم الثقافي والإعلامي، وإنما، وهذا الأهم، خلخل كثيرا من قيمنا الاجتماعية والثقافية، ووضع كل مفردات حياتنا أمام مفترق كبير، ربما للمرة الأولى في تاريخنا، من خلال التأكيد على القيمة الكبرى، التي لا ترتفع فوقها قيمة: الحرية. وهي قيمة لا يمكن لأي ثقافة حقيقية أن تزدهر من دونها. ومهما كان مآل الربيع العربي، فأعتقد أن المواطن قد اكتسب هذه القيمة إلى الأبد، ولو على المستوى الرمزي الذي قد يتحول إلى واقع ما مع تراكمه والنضال من أجل تحقيقه. تاريخنا انقسم الآن إلى «ما قبل» و«ما بعد»، وهذا في اعتقادنا هو الثيمة الكبرى التي ستهيمن على كل النتاج المعرفي العربي في القادم من الزمن.