محمد الخيال: حددت ستة منازل وردت في معلقة أمير الشعر الجاهلي

باحث سعودي يحقق مرابع امرئ القيس ويضع حدا للتنازع حول أمكنتها

امرؤ القيس كما بدا في تمثيل استعراضي في جادة سوق عكاظ و في الاطار محمد بن عبد الله الخيال
TT

وضع باحث سعودي حدا للتنازع حول مكان ستة منازل وردت في معلقة امرؤ القيس، وترددت على الألسنة منذ 1500 عام وإلى اليوم. لقد احتفت مجالس الأدب ودواوين العرب على مر العصور بمعلقة امرؤ القيس أمير الشعر الجاهلي وفحل شعراء العربية وأسبقهم، وذلك لحسن سبكها، وبلاغة ألفاظها، وجمال صورها الشعرية، وإيقاعاتها الراقصة، وألحانها الشجية. وقد تناول الأدباء والرواة شرح معاني أبيات القصيدة، لكنهم حاروا في منازل امرؤ القيس. هل هي خيال أم حقيقة، وإذا كانت حقيقية، فأين تقع؟

يقول محمد بن عبد الله الخيال: «كما هو معروف، هناك منازل وردت في معلقة الشاعر الجاهلي امرؤ القيس استوقفت الشاعر وخلد ذكرها في معلقته، وتدفقت فيها ذكرياته الباكية مع أحبابه وأصحابه، كما في «بسقط اللوى بين الدخول فحومل» و«توضح والمقراة». وأصبحت تلك المنازل جزءا لا يتجزأ من إيقاع القصيدة وجرسها الجميل وجارية على ألسن جميع من تغنى بأبيات المعلقة. واشتهرت تلك المنازل مع أماكن أخرى من الجزيرة العربية، وسارت مع الركبان يهيمون بها في كل واد ومربع. والأبيات التي قالها امرؤ القيس في مقدمة معلقته هي: -

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْ-زِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

فَتُوْضِحَ فَالمِقْراة لَمْ يَعْفُ رَسْمُها لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ

تَرَى بَعَرَ الأرْيامِ فِي عَرَصَاتِهَا

وَقِيْعَانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلفُلِ

كَأنِّي غَدَاة البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلوا

لَدَى طلحات الحَي نَاقِفُ حَنْظَلِ

وشدد الخيال على أن هذه المنازل بقيت مجهولة الناحية والمكان إلا من لمحات شعرية وبلدانية أتت مقتضبة ومتفرقة في معاجم البلدان وقواميس اللغة وروايات أيام العرب، بحيث تنازع البلدانيون الأقدمون والمعاصرون الآراء والاختيارات المكانية بين جهة وأخرى، لافتا إلى أن هذه المعالم الستة تقع في ناحية التيسية (تياس) غرب لوى الدهناء وجنوب البشوك (أود) ضمن ما يسمى حزن بني يربوع قديما. فقد قال ياقوت في «معجم البلدان»: - «وحكى الأصمعي فقال: - الحزن حزن بني يربوع وهو قف غليظ مسيرة ثلاث ليال في مثلها، وخياشيمه أطرافه، وإنما جعلته أمرأ البلاد لبعده من المياه فليس ترعاه الشاء ولا الحمير ولا به دمن ولا أرواث الحمير فهي أغذى وامرأ..».

وأضاف الخيال: «أجمع رائدانا البلدانيان الشيخان حمد الجاسر، ومحمد العبودي، وتابعهما الأستاذ عبد الله الشائع على أن أماكن الدخول وحومل وتوضح والمقراة واللوى وأود وحزن مليحة وآبار الينسوعة واقعة في ناحية التيسية (تياس) شرقا من عروق الأسياح (رمال الشقيق) ضمن ما يسمى قديما حزن بني يربوع في شمال شرقي منطقة القصيم، ولجودة مراعي التيسية فقد خصها أهل نجد بأمثال دارجة مثل: (التيسية موعودة بالسيل والحيا)، ومنها أيضا (لابد بالتيسية من شبعة غنم). وقد ذكر أوس بن حجر تياس (التيسية) مقرونة بالدخول حيث قال: -

ومثل ابن عثم إن دخول تذكرت وقتلى تياس عن صلاح تعرب».

وقدم الخيال، الباحث البلداني، وصفا لرحلة تقصيه وتحقيقه ستة أماكن وردت في مقدمة معلقة امرؤ القيس وهي اللوى، وسقط اللوى، والدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة.

وكان من أهم ثمار هذه الرحلة الماتعة التعرف على تلك الأماكن الستة مدار البحث والتحقيق، وتحقيقها بدقة مرضية.

وقدم الباحث الخيال تعريفات وافية للأماكن الستة مدار البحث وحيثيات شواهدها بالتفصيل الوافي، موضحا بأن اللوى يقع في طرف الدهناء الشمالي ويحده من الجنوب طريق الحج البصري الممتد فيما بين أم عشر وبريكة الأجردي (الينسوعة) وشمالا نفود لينه وشرقا حزن بني يربوع وغربا التيسية «تياس» قديما. وقد قال صاحب «بلاد العرب» في وصف الطريق المتجه إلى الكوفة من حجر اليمامة ما يلي: «ثم تجوز المجازة فتقع في اللوى وعن يمينه قف غليظ يفضي إلى حزن بني يربوع، وعن يساره رملة عظيمة تسمى الشيحة وأظن اللوى لبني يربوع، فتسير فيه وليس هناك مياه إلا مياه عن يمينك تبصرها قريبا من مياه الحزن. فإذا جزت اللوى وهو مسيرة ستة أيام فيما بين المجازة ولينه صرت إلى لينه».

أما سقط اللوى فيسمى منثر جبله في الوقت الحاضر ويتوسط بين عرقي الدخول والهامل (حومل) تحقيقا لعجز البيت القائل (... بسقط اللوى بين الدخول فحومل). قال جحدر بن مالك الحنفي الفاتك:

يا صاحبي وباب السجن دونكما

هل تؤنسان بصحراء اللوى نارا

لوى الدخول إلى الجرعاء موقدها

والنار تبدي لذي الحاجات أذكارا

وجبله لسان رملي يرتبط برملة لوى الدخول ويتجه شمالا ويقع غرب عرق الدخول وشرق عرق الهامل (حومل). وخشمها الشمالي يسمى منثر جبله يطل على خبت السحيرا (توضح) الجميلة.

وجبله رملة حسناء آنسة الجوانب وتكثر فيها شجيرات الأرطى وأعشاب الكلأ المتنوعة.

في حين أن عرق الدخول، هذا الحبل الرملي الجميل، ما يزال متمسكا باسمه القديم ولن يرضى عنه بديلا فهو عريب بين الأماكن، ورد مسماه في عجز البيت الأول لمعلقة امرؤ القيس (.... بين الدخول فحومل). والدخول عرق رملي مواز للهامل (حومل) يمتد من الشمال إلى الجنوب، ويجاور الدهناء (اللوى) من الغرب ويفصل بينهما خبة تسمى خبة الدخول ويحده جنوبا حزن الينسوعة. ويطل خشمه الشمالي بشموخ على خبت السحيرا (توضح)، ويقع في شمال شرقي التيسية (تياس).

أما المكان الرابع من الأمكنة الستة التي وردت في مقدمة معلقة امرؤ القيس وحققها الباحث الخيال فهو حومل قديما وعرق الهامل حديثا، وفي اللغة قيل: الحَوْملُ من كلِّ شيءٍ: أوله. وقال البكري في «معجم ما استعجم»: «وحومل: اسم رملة تركب القفّ، وهي بأطراف الشّقيق وناحية الحزن، لبنى يربوع وبنى أسد. وحومل توأم الدخول وشقيقه عرق رملي جميل أطلق عليه العربان مسمى الهامل لتنحيه عن الدهناء غربا عنها. ويقع الهامل (حومل) غرب عرق الدخول ويتخذ مسارا موازيا له من الشمال إلى الجنوب. ويطل خشمه الشمالي على توضح (السحيرا). ويعتبر أول حبل من الرمال يركب قف «حزن مليحة» من الناحية الشمالية، ويليه شرقا سقط اللوى (جبلة) ثم عرق الدخول ثم عرق أم نقي ثم لوى الدهناء. كما اشتهر حومل بكثرة الظباء في الماضي والماضي القريب.

كما اشتهرت «طلحات حومل وخبراواته» في روايات أيام العرب، والراجح أنها خبراوات أبو مراكي أو دخان الواقعة في إبط الهامل.

أما المقراة (حوايا الضويحي) فتقع شمال السحيرا (توضح)، وشمال فياض الحسكي والبلاديه والحوايا. ويقع الدخول وحومل وسقط اللوى جنوب السحيرا. ومن الأرجح أن نسبة الضويحي للحوايا ليست من باب الصدفة، بل له علاقة بتوضح فالمقراة، ويدل على ذلك تشابه المسمى وهيئة الأحواض. قال ياقوت عن «المقراة» في «معجم البلدان»: «مقراة في اللغة شبه حوض ضخم يقرأ فيه ماء (البئر؟ /لعله المطر) أي يجيء إليه، وجمعها المقاري،....، والمقراة وتوضح في قول امرؤ القيس:

فَتُوْضِحَ فَالمِقْراة لَمْ يَعْفُ رَسْمُها ** لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُ-وبٍ وشَمْألِ...)».

وفي رسم «حوايا» قال ياقوت أيضا: «وقال نصر: حوايا موضع من دون الثعلبية بقرب (أود) ، وهو بناء بالصخر يمسك الماء كهيئة البركة في مسيل الأرض».

وقال تميم بن أبي بن مقبل:

للمازنية مصطاف ومرتبع ** مما رأت أود فالمقراة فالجرع

وقال الشيخ حمد الجاسر في «معجم شمال المملكة»: «... وليس من المستبعد أن يكون (أود) هو ما يعرف الآن باسم (البشوك)، فمن مياهه ماء يدعى (العود) قد يكون اسمه محرفا عن (أود)».

وأوضح الخيال بالقول: تجولنا في «حوايا الضويحي» وفياضها الواقعة في شمال التيسية مقابلة البشوك، كما تفقدنا الحوايا والمقراة الواحدة تلو الأخرى في سفوح المرتفعات والشعاف المتجاورة.. تلك المقاري والحوايا أثارت عجبنا وإعجابنا من دقة ملامح الصور الشعرية التي رصدها امرؤ القيس في معلقته المذهبة منذ خمسمائة وألف سنة، بحيث تبوأ أمارة الشعر من دون منازع.

وقدم الباحث الخيال وصفا لـ«توضح» التي وردت في معلقة أمير الشعر الجاهلي وتعرف حديثا باسم السحيرا، مشيرا إلى أنها تميزت بانتشار الوضح في أرجائها وقيعانها فأصبحت وضحاء الملامح. والسحيرا (توضح) أرض مستوية يفلقها شعيب الفويلق، المجلل بشجيرات الرمث المائلة للبياض. ويتميز شعيب الفويلق المنبسط الأفيح بانفراش مجراه. وقد قرب الهمداني صاحب كتاب «صفة جزيرة العرب» موقعها الجغرافي حيث قال: «.. توضح وهي بين رمل الشيحة وشرج بذات الطلح».، كما قربها البكري في «معجم ما استعجم» إذ ذكر: «توضح موضع ما بين رمل السبخة (الشيحة) وأود»، وهي من منابت الكمأ المشهورة. وكانت محازة لشتى أنواع الظباء في الماضي والماضي القريب.. وتحيط بالسحيرا معالم الأماكن الواردة بالمعلقة إحاطة السوار للمعصم وهن: الدخول وحومل (الهامل) وسقط اللوى (جبله) واللوى في أطرافها الشرقية والجنوبية والغربية. وتقع المقراة وحوايا الضويحي وفياض البلادية والحسكي والحوايا في شمال السحيرا. ما أجمل وأكمل تلك الصور الشاعرية المحيطة بأرض «السحيرا» ذات الألوان المتعددة، فقد جمعت فياضا خضراء وقيعانا بيضاء ورمالا ذهبية زاخرة بالحياة الفطرية. قال امرؤ القيس: فَتُوْضِحَ فَالمِقْراة لَمْ يَعْفُ رَسْمُها ** لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ

وقال جرير:

تركت الصبا من خشية أن يهيجني

توضح رسم المنزل المتقادمِ

وهذا الوصف يدل على أن توضح منازل ومرابع فيحاء ولا تعني أنها آبار فقط.

وأورد الخيال مختصرا لأقوال البلدانيين المعاصرين عن الدخول وحومل وتوضح والمقراة، إذ أكد الشيخان حمد الجاسر رحمه الله ومحمد العبودي والرائد البلداني عبد الله الشائع وجود رمال حومل في شرق التيسية استنادا على الشواهد البلدانية وأبيات الشعر الصريحة. وقد لمح أعلامنا الأفاضل إلى تحديد مكانه بالقرب من أقماع الدهناء وبريكة الأجردي وخبراء أم عشر ومن دون نص بلداني صريح ومعتبر، حيث لم يذكر البلدانيون ولا محققو طريق الحج البصري أي إشارة أو لمحة بلدانية بوجود حومل بالقرب من الينسوعة أو محاذيا لطريق الحاج، بل ذكروا جوف ذي إضم فقط. ولمح عبد الله الشائع إلى تحديد ضفرة حومل في شمال أقماع الدهناء (السياريات) المحاذية لوادي الأجردي بالقرب من خبراء أم عشر الواقعة في طريق الحاج البصري على الرغم من تجاهل محققي طريق الحج البصري لذلك. ورشح بئر سامودة لتكون المقراة، ولمح إلى إمكانية وجود توضح شمالا من سامودة بناء على استقراء وحدس الباحث مع غياب كامل للنص البلداني المكمل، مما أدى إلى تباعد الصورة المكانية والشعرية لتلك المرابع الجميلة، كما استدرك الشائع إلى أنه لم يتوصل إلى قول حاسم ودقيق في تحديد بعض الأماكن وذلك في كتابه «مع امرؤ القيس...»، ورجح الراحلون المشايخ محمد بن بليهد وسعد بن جنيدل وعبد الله بن خميس، وجود الدخول وحومل وسقط اللوى وتوضح والمقراة في عالية نجد الجنوبية وذلك استنادا لشهرة وجودة ماءة الدخول العلوية العذبة والنميرة، إضافة إلى اجتهادات شخصية منهم للمعالم الأخرى ومن دون نص قوي أو سند معتبر، إذ تم تجاهل النصوص البلدانية والشعرية التي أشارت إلى وجود تلك المرابع الجميلة ضمن حزن بني يربوع في ناحية نجفة مليحة وأود.