جدل الحقيقي والافتراضي

رواية «فيرجوالية» تستلهم عالم شبكات التواصل الاجتماعي

TT

في روايته الجديدة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، التي جاءت في 261 صفحة من القطع المتوسط، يدشن سعد سعيد خطوة ريادية في ما يمكن أن نسميه الرواية المستقبلية في المكتبة العربية، ونحن نعلم أن الرواية الغربية قطعت أشواطا طويلة في هذا النوع من الأدب من خلال تماهي الخيال العلمي المجدول بمتطلبات حياة عبرت هموم الاحتياجات الأساسية فكان تحليق المبدع الغربي في هموم لا تعرفها مجتمعاتنا التي لا تزال تفتقر للأساسيات من الاحتياج اليومي.

ومن العتبة الأولى للنص (العنوان)، نجد الكاتب ينحت كلمة «فيرجوالية» من كلمة إنجليزية هي «Virtual World» والتي تحيلنا إلى العالم الافتراضي ليخلق كلمة عربية لم تحظ بتعريف متفق عليه حتى الآن ليجعلها عتبة أولى لنصه الإشكالي القائم على عالم بدأ المتلقي العربي يعرفه مؤخرا، ألا وهو شبكات التواصل الاجتماعي (فيس بوك، ماسنجر، سكايب.. إلخ) وما تلعبه من دور مركزي في حياتنا اليومية، إذ نرى تزايد الاهتمام بالعوالم الافتراضية في حياتنا اليومية عبر استخدامنا منتجات التقنية من تلفزيونات تفاعلية وحواسيب وهواتف ذكية تسهل إقامة شبكة علاقات تربط الواقعي بالافتراضي وتزيل الحدود بين الاثنين. ومع تنامي أهمية هذه الظاهرة إلا أننا لا نزال نفتقد انعكاسها في المنتج الإبداعي الروائي، هذا إذا استثنينا بعض الإشارات العابرة التي وردت في الرواية الجديدة في السعودية، كما في أعمال إبراهيم بادي أو رجاء الصانع على سبيل المثال لا الحصر، بينما نجد رواية «فيرجوالية» تدشن بطولة مطلقة لهذه العوالم الافتراضية.

«فيرجوالية» رواية يمكن أن تبوب ضمن ما يطلق عليه رواية الإطار، حيث يأخذنا السرد عبر الحكاية - الإطار التي تدور أحداثها بين الشخصية المحورية (أنس حلمي) وبين وحدة السيطرة في جهاز كومبيوتره التي أطلق عليها الكاتب اسما كوديا. فبعد تعرض كومبيوتر (أنس حلمي) لعدة صدمات كهربائية بسبب انقطاع التيار الكهربائي المتكرر في بغداد، تولدت لدى وحدة السيطرة قدرة مفرطة من الذكاء الصناعي غير الموجود في التصميم الأساس للكومبيوتر تؤهله لأن ينشر ما تم مسحه من دردشات الشخصية المحورية في مواقع التواصل الاجتماعي على الملأ في شبكة الإنترنت، وما يعنيه ذلك من نشر فضائح مرتبطة بخصوصية وحميمية هذه الدردشات.

عبر الحكاية - الإطار ندخل عوالم الحكايات الأخرى المكونة للعمل عبر الدردشات (المحذوفة – المعادة) لنشهد تنامي السرد بيد حاذقة تمتلك ناصية العمل، فقد وضع سعد سعيد نفسه أمام عدة تحديات في هذا العمل، أولها تخليه عن تقنيات السرد المتعددة من مكان وزمان ووصف أو حتى اللجوء إلى تقنية الراوي العليم الذي يصور للمتلقي أجواء العمل من مكان علي خفي، أو عبر ارتداء السارد قناع السرد بضمير المتكلم الذي يحيل المتلقي إلى جو أشبه بالاعتراف أو السيرة الذاتية. نقول إن سعد سعيد عبر تحديه الإبداعي تنازل عن كل ذلك واستخدم تقنية واحدة فقط هي الحوار (Dialogue)، ليبني عبرها عمله الروائي بأكمله، وقد يستخدم الروائي الحوارات في متن العمل بسلاسة عندما تكون هذه الشخصيات في مواجهة بعضها البعض إلا أن تحدي «فيرجوالية» كان أكبر من ذلك، لأن هذه الحوارات كانت عبارة عن دردشات (chatting) وهي بالتالي ليست ما يطلق عليه حوار (وجها لوجه) حيث إن حوارات المواجهة يمكن أن تسهل عمل الروائي عبر الإيماءة ونبرة الصوت والحركة المصاحبة لها، إلا أن دردشات «فيرجوالية» جاءت عبر أجهزة كومبيوتر باردة لا يمكنها أن تصور سخونة مشادة أو دفء علاقة حميمة، مما جعل مهمة سعد سعيد تقترب من الاستحالة. ومع ذلك يبقى المتلقي مشدودا مع كل كلمة في هذه الدردشات التي تبني بتؤدة وحرفية عالية تنامي الحدث ممسكة بخناق السرد تسيره بقدرة واضحة في السيطرة على الإيقاع الذي لا يجعل العمل يقع في التكرار أو الترهل والملل. وللتغلب على الصعوبات والتحديات المشار لها نجد أن الكاتب قد لجأ إلى التفريق بين الحوارات المتعددة بين الحكاية الإطار والحكايات الداخلية إلى تقنية اختيار أنواع مختلفة من الخط الطباعي الغامق أو الفاتح وحجم الخط أو غيرها من تقنيات الطباعة لتساعده ولو قليلا على التخلص من هذه الصعوبات، وقد نجح ذلك عبر الجهد الواضح الذي بذله الناشر في ضبط التقنيات الفنية في الطباعة.

أما اختيار الموضوع فقد جاء عبر طرح هموم صغيرة لدى الشخصية المحورية التي لم تطرح شعارات كبيرة أو تقاتل طواحين هواء متخيلة، فجاء السرد رقراقا محملا بشذى عاطفة جميلة تشد المتلقي عبر تنامي علاقة حب محورية ربما وصمت بعدم الشرعية، إلا أنها تحمل نكهة قصص الحب الأسطورية مثل (قيس وليلى أو روميو وجولييت.. إلخ). وحتى خاتمة هذه القصة، حيث الفراق واللوعة نجده قد جاء متماهيا مع تلك القصص المرجعية، وقد يعيب البعض على الشخصية المحورية دونجوانيتها المفرطة، إلا أننا يجب أن نذكر هنا أن متن العمل مكون من دردشات تم حذفها، وبالتالي فلا بد أن يكون المحذوف مليئا بقصص حميمة وعلاقات ساخنة، إلا أنها بالتأكيد ليست كل عالم الكاتب (أنس حلمي) وإنما شكلت جزءا مخفيا من حياته الحافلة بعلاقات سوية وطبيعية لشخصية تعيش ظروف حياتها اليومية بشكل عادي.

لـقد حقـق ســعد ســعيد فــي «فيرجوالية» ريادة في اختيار الموضوع وهو (فنتازيا التقنيات والتواصل عبر فضائها الافتراضي) وريادة في شكل السرد القائم على الحوار فقط، لذلك يمكن أن نعتبر هذا العمل إضافة مهمة في مكتبة الرواية العربية بشكل عام والعراقية بشكل خاص وأن نعتبره تدشينا لحقبة جديدة من شكل وموضوع السرد العربي.