مكر التاريخ العربي

فاضل السلطاني

TT

يحب الزميل هاشم صالح مقولة أو مصطلح «مكر التاريخ» كثيرا، والحق معه. فهذا المصطلح هو جزء أساسي في فلسفة هيغل، التي غيرت طريقة فهمنا للتاريخ، وحولته إلى علم للمرة الأولى في تاريخ البشرية، علم له ميكانيته وقوانينه الخاصة المستقلة عن الإنسان، كأي علم آخر. وبالطبع، من الصعب تقديم تصور كامل عن هذا المصطلح هنا، ولكن ما يمكن قوله باختصار هو أن هيغل يعتبر التاريخ شخصية مستقلة تماما عن إرادات الأفراد. إنه يسير في الطريق الذي اختطه لنفسه بمعزل منها، وغالبا على الضد من أفعالنا ورغباتنا. ومن هنا، هو «يمكر» و«يضلل» من يريد إعاقة حركته، فنجد أنفسنا نسير في عكس الاتجاه الذي أردناه.

استنادا إلى هذا المصطلح، يوجه صالح في كتابه الجديد: «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ»، رسالة، إذا لم نقل تقريعا، إلى المثقفين المتشائمين بمستقبل الربيع العربي، بعد أن صادر الإسلاميون، «معتدلين» ومتطرفين، هذا الربيع، وألبسوه جلبابا شتائيا. إنه يرى أن هؤلاء المثقفين لم يقرأوا التاريخ الإنساني جيدا، والمقصود التاريخ الأوروبي الذي مر، وإن قبل قرون، بما نمر به الآن من هيمنة للقوى الأصولية. هذه الهيمنة، كما يرى، في ضوء نظرية «مكر التاريخ»، كانت مرحلة ضرورية من مراحل التطور الاجتماعي والسياسي في أوروبا، لكن التاريخ واجهها وتجاوزها، لأنه «لا يتجاوز شيئا، إلا بعد مواجهته ودفع ثمن هذه المواجهة»، ومن هنا، فإن «دخول العرب في المرحلة الأصولية - الإخوانية لا يعني انتصار الأصولية بل بداية انحسارها». ولكن كيف نسقط ما حدث في أوروبا قبل قرون على حالتنا العربية الآن في ضوء «مكر التاريخ»؟ وكيف نطبق مكر التاريخ هذا على الربيع العربي - أو خريفه كما يرى البعض - ؟ خاصة بعد مرور سنتين قد تكونان كافيتين ليتقدم فيها العقل على النشوة؟

من المعروف أن تلميذ هيغل النجيب، ماركس، أوقف هذا المصطلح على قدميه بدل رأسه، كما فعل مع كل قوانين ديالكتيك هيغل، وذلك بإدخاله العامل الإنساني، وإيمانه بقدرة الإنسان على التأثير على حركة التاريخ العشوائية، في شروط اجتماعية واقتصادية معينة. إلا أن صالح يتجاوز ماركس، ويعود إلى الفهم الهيغلي للتاريخ، الذي لا بد أن يمضي قدما حسب قوانينه هو. ولكن قبل أن يصبح قادرا على السير بشكل طبيعي يجب أن يلفظ ما يثقل حركته. وما يثقل حركته، عربيا وما يملأ أجوافه، كما يقول صالح بحق، هو القيح الطائفي والعنصري، وتخوين الآخر، والحقد المكبوت والمعلن، وقبل كل شيء، الاحتقان الاجتماعي والسياسي الذي وصل إلى أقصى درجاته بفعل السلطات الحاكمة، وخاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا الموروث الضخم من التخلف والقمع، اللذين أوقفانا في مرحلة ما قبل التاريخ. حسنة الربيع العربي، حسب صالح، أنه أتاح لكل قيحنا الداخلي أن ينفجر، وهذا «يمثل نقطة تقدمية في المسار العام للتاريخ، على الرغم من الثمن الذي سيدفع نتيجة هذا الانفجار». إنه انفجار إجباري قد يتمثل في حروب أهلية أو مجازر طائفية، وآلام بشرية لا توصف، لكن بعدها يمكن أن «ينطلق التاريخ العربي خفيفا قويا بعد أن يكون قد تخلص من أحماله وأثقاله». ومن هذه الأحمال والأثقال الحركات السياسية والفكرية المتطرفة، والنزعات الطائفية والعنصرية التي ازدهرت في رأينا نتيجة قمعها طويلا، وعاشت على حساب القمع. ولو كانت هناك ديمقراطية نسبية، هنا وهناك، لما انتعشت هذا الحركات، فهي لا يمكن أن تعيش طويلا فوق السطح في الهواء الطلق. من هنا، سيحقق التاريخ «مكره». فهذه الحركات تعيش الآن، كما هو واضح في مصر وتونس، نشوة انتصارها الوهمي، متصورة أن التاريخ قد أنصفها أخيرا، بينما هو، في الحقيقة، قد أخرجها من أعماق الأرض إلى السطح استعدادا لمواجهتها، وخوض معركته الأخيرة معها ليواصل سيره الطبيعي، والحتمي أيضا.

يبدو أنه مكر التاريخ العربي هذه المرة.