جمال البنا.. مسار ومصير مجدد إسلامي

أصدر أكثر من مائة كتاب ترجمت عشرة منها إلى اللغات الأجنبية

جمال البنا
TT

كنت كلما زرت الأستاذ جمال البنا، الذي رحل عن دنيانا قبل أيام، وجدت رأسه مدفونا بين أكداس من الورق والجرائد بينما ترمي مكتبته العامرة بعض ظلها على نحافته، وهو جالس إلى مكتبه يدون ما جال بخاطره أو اختمر بذهنه في دأب وإصرار ونشاط غريب، وكأنه شاب في مقتبل حياته يسعى إلى أن يتحقق، ويجد لقدميه الغضتين مكانا في الزحام.

خلفه نافذة صغيرة، تطل على مدرسة خليل أغا، تلك التي ذكرها نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة، وحل بها تلميذا بطله الذي لا يُنسى «كمال عبد الجواد»، وأمامه بضعة مقاعد متآكلة، انخفض حشوها، واهتزت أرجلها، وبعض مصابيح واهنة تتدلى من السقف لتحارب العتمة الراقدة بين رفين متوازيين من الكتب الموزعة على معارف شتى، ينيخان على مكتب آخر، وضع فوقه جمال عبد الناصر يده ليقرأ الفاتحة مع قادة الإخوان المسلمين، قبل أن يتنازعا ويأتي الخصام التاريخي والهجر والنبذ والاحتراب.

يستيقظ عند الفجر، يصلي ويجلس على مقعده، يقرأ ويكتب، ويواصل عصرا بعد ساعتين يخطفها من الزمن في قيلولة منتظمة، يحل فيها على سرير قديم بسيط، غارق هو الآخر وسط الكتب، ويطل هناك تلفاز كان يتابع فيه الحلقات التي سجلتها معه حول التجديد في الفكر والفقه الإسلامي، والتي وصلت إلى تسعين حلقة.

كان شجاعا جسورا، لا يهاب أحدا، ولا يخشى في الحق لومة لائم. يتلقى التهديد والوعيد من خصومه مبتسما، هازئا بأولئك الذين لا يستطيعون أن ينفعوا حتى أنفسهم، فكيف يضرونه؟ ولم يكن لديه شيء يخسره. فلا منصب، ولا ثروة، ولا ولد. وحيد مر على الدنيا، وذهب عنها على حاله.

كثيرا ما كان يقول إن بعض الذين يختلفون معه، ويقدحون فيه، ويهاجمونه حين يسألهم الناس عن آرائهم فيما يقول، يتصلون به سرا معتذرين، ويقولون له: لا تؤاخذنا فلدينا ما نخسره. المناصب والأموال، وأصحاب الأنياب الطويلة لا يرحمون أحدا، طاردوا محمد عبده وعبد المتعال الصعيدي، والحبل على الجرار.

وكثيرا ما كان يبتسم ويقول: «ما ينسبونه إلي لم أخترعه، فهو موجود في بطون كتب صفراء يحفظونها عن ظهر قلب، ويتلونها على أسماع الناس كما هي». ثم يستعين بقول زكي نجيب محمود ليصفهم بـ«الحفظة المتعالمين». وكنت أقول له: «لمَ تنزلق إلى فخ ينصبونه لك، وبعد أن تقع فيه يهيلون التراب على كل ما كتبت؟». فكان يجيب في ثقة: «من يريد أن يعرفني على حقيقتي عليه أن يقرأ أكثر من مائة كتاب ألفتها». ثم يرفع هامته وينظر بعيدا ويقول: «سيعرفونني بعد خمسين سنة»، ويردف: «لست فقيها ولا مفتيا أنا كاتب». ويقرأ عن القصور والنساء والسيارات الفارهة التي يملكها تجار الدين فيضحك ويتساءل: «أين زهد العلماء والتقاة؟ وأين كتبهم التي تحوي آراءهم هم وليس ترديد آراء الغابرين كالببغاوات؟». ويقرأ عن تخبط الحركة الإسلامية في عوالم السياسة والاقتصاد والاجتماع فيقول: «نصحتهم وقدمت لهم دراسات وتصورات لكن عقولهم جامدة، ومصالحهم الشخصية تطمس عقولهم وقلوبهم». ثم يتوه قليلا ويعود: «لو امتد الأجل بحسن البنا لغير الكثير من الأفكار، لكنه رحل مبكرا وتركهم يتخبطون».

ولد جمال البنا في المحمودية من أعمال البحيرة (دلتا مصر) في 15/12/1920، لأب كان مشغولا بعلوم الدين، إذ صنف مسند الإمام أحمد بن حنبل في الحديث. وعكف البنا، الذي هو الشقيق الأصغر للإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، منذ طفولته، على الاطلاع، وبعد أن أتم دراسته الابتدائية، التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، لكنه ترك الدراسة إثر شجار بينه وبين مدرس اللغة الإنجليزية، وراح يستكمل تعليمه بوسائله الخاصة، رافضا في الوقت نفسه أن يعيش في جلباب أخيه.

عني البنا بقضايا العمل النقابي، فأسس عام 1981 الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل، بعد أن استعانت به منظمة العمل الدولية في عدد من الترجمات، ومنظمة العمل العربية كخبير استشاري. وفي سنة 1997 أسس مع شقيقته السيدة فوزية مؤسسة «فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي»، وهي دار نشر ومكتبة إسلامية عامرة، تحوي أكثر من عشرة آلاف كتاب بالعربية، وثلاثة آلاف بالإنجليزية.

وأطلق البنا دعوة «الإحياء الإسلامي» التي ضمنها خلاصة فكره الإسلامي والسياسي والثقافي. ورغم أن الدعوة قوبلت في البداية بتعتيم وتجاهل كاملين، فإنها لم تلبث أن شقت طريقها في مصر والبلدان العربية والإسلامية، ولاقت اهتماما من هيئات دولية.

وهو يُعرف دعوة الإحياء في بيان يشبه المانفستو بأنها «ليست هيئة، أو تنظيما أو جمعية لها كيان إداري ولائحة ونظام أساسي كما هو الشأن في الهيئات والأحزاب والجمعيات. إنها ببساطة دعوة، أو حركة، أو تيار فكري وصل إلى درجة البلورة والتنظير التي تجعل له كينونة خاصة متميزة تبرؤه من السطحية أو التلفيق أو الانتقائية أو الاتباعية» ثم ينتهي إلى القول: «لما كانت دعوة الإحياء الإسلامي تيارا فكريا ونظرية في فهم الإسلام. فإنها تصبح ملكا لكل من يؤمن بها، فالأفكار لا تكون موضوعا لاحتكار وما إن ينشرها صاحبها الأول حتى تصبح ملكا للجميع. ومع أننا حرصنا قدر الطاقة على الكمال فإن هذا لا يمنع من ظهور من يقدم لهذه الدعوة إضافة تثريها أو يكشف مأخذا فيها».

وقد تفرغ البنا منذ شبابه للتأليف فأصدر أكثر من مائة كتاب، ترجمت عشرة منها إلى اللغات الأجنبية. وأول كتاب له ظهر عام 1945 عن «الإصلاح الاجتماعي»، ثم أتبعه في العام التالي بكتاب وسمه بـ«ديمقراطية جديدة». ومن أهم كتب البنا «نحو فقه جديد»، «الإسلام دين وأمه وليس دينا ودولة» و«تجديد الإسلام» و«الإسلام والعقلانية» و«مسؤولية فشل الدولة الإسلامية» و«كلا ثم كلا» و«الإسلام وحرية الفكر» و«الإسلام كما تقدمه دعوة الإحياء» و«روح الإسلام» و«تفسير القرآن الكريم بين القدامى والمحدثين» و«الإسلام والحركة النقابية» و«تفنيد دعوى النسخ في القرآن» و«الجهاد» و«الحجاب» و«المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء» و«إخواني الأقباط».

ما يميز الأستاذ جمال البنا هي نزعته العالية إلى التجديد، ورفضه الامتثال لكل ما أنتجه الأولون من فقه، وذهابه مباشرة إلى «النص المؤسس» وهو القرآن الكريم، والجزم بأن كل ما يقع خارج الثوابت الإيمانية يحتمل، بل يفترض، إعمال العقل نقدا واجتهادا، والبحث عن المصلحة العامة للأمة.

ولذا فمضمون دعوة الإحياء وفق بيانها المؤسس هو «تجاوز الأطر السلفية، والعودة إلى القرآن واعتباره صيحة إنقاذ، ودعوة هداية وإرادة تغيير ورسالة، أي باختصار تثوير القرآن وليس تفسير القرآن». وقد سعى البنا إلى أن تنزل هذه الدعوة من عالم التنظير إلى الواقع، فعالج بقوة وصراحة التحديات التي يثيرها المجتمع، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.

ولم يكن جمال البنا تغريبيا كما يزعم خصومه، الأمر الذي نراه جليا في احتفائه بالخصوصية الحضارية، ونقده للعولمة. وقد احتلت قضية العولمة حيزا واضحا في فكره إذ يرى فيها آخر صيحة أو مدى وصل إليه النظام الرأسمالي، كان فصلها الأول هو الغزو العسكري لنهب موارد المستعمرات، وفصلها الثاني هو الشراكة في إقامة المؤسسات الصناعية والتجارية بين الطرفين، أما الثالث فهو العولمة، التي يقول عنها في كتابه «استراتيجية الدعوة الإسلامية في القرن 21»، إنها «جندت ثلاثة فيالق لا يمكن لأي دولة أن تقف أمامها وهي اختراق البورصات والانتقال المفتوح لرؤوس الأموال، وغزو السلع والمنتجات أسواق العالم في ظل الجات وبنود منظمة التجارة العالمية، والإعلام المعتمد على الأقمار الصناعية، والذي يقوم بالغزو الفكري والنفسي لفلسفة العولمة، بحيث يمكن في النهاية أن يأكل العالم كله الهامبورغر، ويشرب الكوكاكولا، ويلبس الجينز، ويشاهد الأفلام الأميركية».

لكن البنا لم يقع في فخ التشاؤم حيال العولمة على غرار ما جرى لحسان، ولم يخف منها بالقدر الذي يخيف القرضاوي، إنما يؤكد أن «كل الأديان والنظم عجزت عن توحيد العالم كله، وأن قوى الدين واللغة والتراث والخصائص ستقف أمام طوفان العولمة، بحيث لا يمكن الاستحواذ على الإنسان الأفريقي أو الآسيوي، وبوجه خاص الإنسان المسلم، الذي يقدم له الإسلام أكبر حصانة من الإذابة».

ويتفاعل الخطاب الفكري لدعوة الإحياء الإسلامي التي أطلقها جمال البنا مع كثير من الأفكار التي أنتجها الغرب، فيؤكد أن الدور الذي قامت به الاشتراكية في التاريخ الإنساني لا يمكن إغفاله، ويتوقع أن يكون لها جولة أخرى، لأن وجودها أمر جدلي بالنسبة للرأسمالية. وينطبق المسار نفسه - في نظره - على القومية التي رزقت عوامل مواتية جعلتها تشغل الساحة، وتظفر في بعض الحالات بالصدارة. أما العلمانية فيدعو البنا إلى التصالح معها، ولا يرى أي تعارض بين العلمانية والإسلام في بعض الجوانب، ويؤكد أنها إن اختلفت مع الإسلام في أمور، لكن تظل لها أهمية حتى لا يطغى التدين الأخروي على التدين الدنيوي.

لكن البنا لا يرى في أي من المذاهب الثلاثة بديلا عن الإسلام، ففي نظره «الأديان أغنى وأثرى من أي فكر إنساني»، ويرد القومية والاشتراكية والعلمانية إلى أصلها الأوروبي، ويرى فيها نبتا لأرض غير أرضنا، لكنه يدعو إلى أن «نستوعب بعض دروسها التي تتلاءم معنا، ونعكف عليها لتعريبها».

ويتعمق البنا في تفاعله مع العطاء الفكري والثقافي للآخرين فيقول في كتابه «كلا ثم كلا»: «نحن من دعاة إحكام اللغات الأجنبية والاطلاع على الثقافة الأوروبية، ولكن هناك فرقا بين أن نحكمها لحساب ثقافتنا الخاصة، وبين أن نحكمها على حساب ثقافتنا الخاصة. والمفروض أن نلم بكل الثقافات والمعارف، لأنها جزء من الحكمة التي هي هدفنا، والتي تدخل في مكونات الإسلام».

ويجعل البنا من «الحكمة» التي تقوم في جزء منها على اقتباس المفيد من ثقافة الغير، مصدرا من مصادر الفقه، علاوة على أنها في نظره «أصلا من أصول الإسلام»، ويعيب على الفقهاء إهمالهم لها قائلا في كتابه «أصول الشريعة»: «أغلب الظن أنهم عزفوا عن الاعتراف بأصل ومصدر مفتوح، غير محدد أو منضبط، يسمح بالانفتاح والتعددية، وهي صفات يضيق بها الفقهاء عادة، لأنها تفتح عليهم بابا لا يمكنهم التحكم فيه».

ويتبنى البنا تعريفا للحكمة مفاده أنها «العقل والعلم والفهم وإدراك روح الإسلام ومقاصده وقيمه»، ليدعونا إلى أن «ننهل من كل معين لحكمة، من علوم وفلسفة وآداب وفنون دون حرج.. فلا يكون هناك احتكار للمعارف ولا سدود قائمة تحول دون الإفادة من ذخائر الحضارة الإنسانية»، ويقول: «ثورة المعرفة في العصر الحديث وتدفقها من أربعة أركان العالم، ووصولها عبر المطابع والقنوات الفضائية والإنترنت وخدمات التصنيف، وضع تحت أيدي البحاث كل كنوز العالم القديم، وكل مستجدات العصر الحديث، بحيث أصبح (الكتاب) أي القرآن يمثل دليل العمل والإطار العريض للخطوط الرئيسية، أما ما يملأ الحياة فهي هذه العلوم والفنون والمعارف التي تتدفق فيما يشبه الفيضان من كل الدول المتقدمة، وأصبحت رمز ثروة وقوة العصر الحديث»، الذي يدعو البنا إلى الانخراط فيه والتفاعل معه.

لقد رحل البنا وهو يتوقع أن ينفتح الباب عريضا لفكره، وأن يعاد اكتشافه حتى ولو بعد نصف قرن، كما كان يتوقع دوما، ولذا صرخ في آخر حياته قائلا: «إلى كل الذين يؤمنون أن الإسلام رسالة، والذين يؤرقهم التساؤل، نقول لا تيأسوا. لقد رسمنا الطريق، وبدأنا المسيرة، وندعوكم للمشاركة». والأيام القادمة كفيلة بالبرهان على أن ما نادى به كان نبوءة ستقف على قدميها ذات يوم، أو مجرد أضغاث أحلام، جعلها الزمن نسيا منسيا.

* روائي وباحث في علم

الاجتماع السياسي، مصر