إنهم يحرقون الكتب

ميرزا الخويلدي

TT

في عام 1258 (656هـ) اجتاح المغول بغداد، ودمروا 36 مكتبة، بينها مكتبة «بيت الحكمة» التي تضم نفائس الفكر الإنساني من أدب وفقه وفلسفة ومخطوطات وتراجم، ومحاضن علمية للبحث والمناظرة، ومرصدا فلكيا. لكن الغزاة الذين كانوا على قطيعة مع الحضارة، وخصومة مع الفكر، عمدوا لمئات الآلاف من الكتب والقراطيس والمخطوطات النادرة وألقوا بجميع محتوياتها في نهر دجلة، الذي اصطبغ بلون الحبر، وتحول ماؤه إلى اللون الأسود.

فعل المغول فعلتهم، في غفلة من الحضارة الإنسانية التي لم يكن أحد قادرا على محاسبتهم، ولكن الأثر المدمر الذي تسببوا به ظل جاثما فوق صدور العرب حتى اليوم، فالتراث العظيم الذي بنوه على مر العصور أصبح طعما لمياه دجلة، مما أحدث «فجوة» معرفية لم تردم.

لكن المغول - وقتها - لم يدعوا أنهم حملة حضارة. ولحسن الحظ لم يرفعوا شعارات التنوير والعدالة والديمقراطية، وتخليص الشعوب من الاستبداد، أو أنهم رسل الحرية للمقهورين. كان فعلهم همجيا لا يبرر، وبقي وصمة عار، رغم أنه لم يكن فريدا من نوعه، فعلى طول الخط كان هناك «ظلاميون» يوجهون طاقتهم لإطفاء النور، وقتل الحقيقة، وتكبيل العقول.

كما لم يدع المغول أنهم رسل هداية، وجنود الحق، ومجاهدون في سبيل الله كما يدعي أشباههم في جمهورية مالي بغرب أفريقيا. حيث عمد المقاتلون الإسلاميون هناك أخيرا لحرق واحد من أكبر الكنوز الفكرية في مدينة «تمبكتو» في شمال مالي. ليؤكدوا أن حربهم في الأساس ضد الفكر والتنوير والكتاب.

فوسط الحرب المحتدمة في جمهورية مالي، والتي تقودها فرنسا بدعم أوروبي وغطاء دولي، لمنع وقوع هذه الجمهورية في قبضة المتشددين الإسلاميين القريبين من تنظيم القاعدة، أحرق هؤلاء «معهد أحمد بابا للتوثيق والأبحاث» في تمبكتو، وهو أحد أهم دور الكتب في مالي ويحتوي على وثائق أثرية يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر الميلادي، كما يحتوي على آلاف المخطوطات القيمة.

ومن مفارقات القدر، أن المكتبة التي أحرقها هؤلاء، شيدتها دولة جنوب أفريقيا، التي تعافت من مأساتها العنصرية، وأقامت هذه المكتبة كمثال لدعم المعرفة ونشر التنوير رغم التباين الثقافي. ويكشف الهجوم على المكتبات في مالي وقبلها تدمير الأضرحة والآثار التاريخية أن هذا الفكر المهاجم لا ينسجم مع عصره، ولا يستجيب لتطلعات المستقبل، ولذلك فهو في حالة صدام مع العالم.

حرق المكتبات، كمنع الكتب، وحجب الوصول لشبكة الإنترنت، وقطع الاتصالات، والحد من تدفق المعلومات، وفرض الوصاية على الفكر، والتمادي في منع الفنون، وتضييق فرص التعليم أمام البنات، كلها منتجات لا تعكس فكرا قادرا على الوقوف بصلابة على أرض الحضارة الراهنة، ولا هو قادر على بناء وتشييد حضارة مقبلة، هو جزء من تركة الماضي لا من آمال المستقبل.

لقد أمرنا نبينا العظيم (صلى الله عليه وسلم) أن نطلب العلم ولو في الصين، وجاء هؤلاء ليمحقوا العلم ويحرقوا الكتب القليلة النادرة في بلدان هي في أمس الحاجة لبصيص المعرفة ونور العلم لكي تتمكن من النهوض من فقرها وحاجتها.