النحت في فضاء الآيديولوجيا

الفنان مكي حسين تحدث عن تجربته مع البرونز في لاهاي

TT

ياسين النصير * في أمسية جميلة في مدينة لاهاي قدم الفنان مكي حسين محاضرة عن اعماله النحتية من خلال عرض سلايدات مختلفة لتجاربه خلال السنوات الخمس الاخيرة.

ابتدأ الفنان بشرح مبسط للتعامل مع النحت، مشيرا الى ان مادة البرونز هي المفضلة لديه، وان ما سوف نشاهده من اعمال هنا ليست الا تماثيل معمولة من الطين تعد نماذج اصلية قبل ان تنفذ بالبرونز، وهي اعمال قاربت العشرين عملا ومعظمها بأحجام لا تتجاوز الاربعين سم ارتفاعا.

ما يخص تجربته الفنية اشار الفنان بتواضع المتمكن من عمله، الى انه يتعامل مع النحت وفق ثلاثة مبادئ نظرية وعملية:

المبدأ الاول هو قلب المفهوم الهرمي للنحت الذي ساد اعمال النحاتين منذ القدم، وهو ان يجعلوا من قاعدة الهرم قاعدة للتمثال، وقمة الهرم قمة للتمثال، مكي حسين جعل من قمة الهرم المدببة قاعدة لتماثيله، ومن قاعدته قمة لها، وهذا لا يعني قلبا لمفهوم السماء ـ الارض، أو الأعلى اسفل فيزيائيا ورياضيا، انما البحث عن جمالية فنية تعتمد التوازن، في الكتل على قاعدة غير مألوفة اي ان تعامل مع بنية المثلث الذي تكون قاعدته الى الأعلى، هو بحث جمالي قبل ان يكون تنويعا في حجوم كتله وتوازنها، وبالفعل كل تماثيله كانت من الاعلى متسعة بينما يكون ارتكازها في الاسفل على نقطة واحدة مسندة بفضاء. وقد اجلس شخوصه على منصة ملتصقة هي الاخرى بالتمثال وليس بالقاعدة، مما يوحي ان التمثال يجلس في فضاء على مسند في حين ان التمثال ومسنده كليهما يستندان على قادة مدببة.. مما جعل التعامل مع ثيمة التوازن مشكلة بحد ذاتها. فالنصب تميل وهي في فضاء مشتبك مع الكتلة الى الحوار والى علاقة ما لانها جزء من بنية روحية محلقة في فضاء الرغبة والتحرر. ولذلك جاءت اسماء معظم تماثيله: علاقة، انسجام، حوار، حب، تحرر، شهداء، اعتاق، سقوط، عمود، لجوء.. الخ. وكلها تبني اسماءها ودلالتها الفكرية على بنية العلاقة بين الكتلة والفضاء في تعامل روحي تظهر علاماته على الجسد الذي كان منفعلا وسياق العلاقة ـ الحوار. فالهرم المقلوب، يعطينا حسا ما بالاغتراب، حيث ان الالتصاق بالارض ليس الا وهما، او ضرورة آنية، اذ بإمكان الشخصية ان تحلق عاليا لان كل ثقلها الجسدي والفكري في الاعلى، وربما كان ذلك من الدوافع الخفية لايديولوجية الفنان في ان يحرر شخوصه وافكاره من سجن الواقع ومشكلاته، منطلقا بشخوصه الى فضاء الحرية. فالهرم المقلوب يجعل من العلاقة مع الماضي مجرد صلة وهمية، العلاقة الحقيقية هي في المستقبل.

المبدأ الثاني هو الفضاء الخارجي. ويعني بذلك الفراغ الذي يحيط بالتمثال. ومن خلال الصور التي جهد الفنان ان يظهر تماثيله فيها من زوايا مختلفة ومؤكدا فيها على ان التمثال لا يرى من جهة واحدة، بل من جهات عدة وعلى الفنان ان يحرص على ان يبرز جمالية النحت بوصفه فنا مكانيا عندما ينظر إليه من زوايا مختلفة، خاصة عندما يوضع في الساحات. علما بان تماثيله لا تميل الى التضخيم بل هي من منطلق تماثيل الصالة تلك التي تعتمد على فضاء مضاء تقنيا وعلى حركة للعين موضعية تبين تفاصيله عن قرب. ولهذا حرص الفنان على ان يظهر لنا بالصور كل جزئيات النصب الصغيرة وكأنها كبيرة من خلال تكبير حجومها المصورة، هذا الامر جعل من الفضاء المحيط بها مشغولا بلون ابيض ـ رصاصي ـ مائي ـ كي يمد من الرؤية الى خارج فضاء الكتلة. ففي كل لقطة له من الامام او من الخلف او من الجنب وبزوايا رؤيوية مختلفة تؤكد قيمة مضافة للتمثال، مما يعني ان للفضاء المحيط بالتمثال قوة معرفية مشغولة به ومؤكدة لحضوره ومضيفة اليه قدرة على اختراق الفضاء او الانضواء تحته، وبدت الصور المكبرة لنصبه الصغير تعيش في فضاء مشغول، وفي مكان ممتلئ بحساسية الكتلة الممتلئة بتفاصيل الجسد تشريحا وفنا. وفي اطار التعامل مع الفضاء نجد ان نصبه هذه بعضها يصلح لان يكون نصبا كبيرة في الشوارع، وبعضها يصلح لان يكون في الصالة. وهذه الطريقة التي تجمع بين فضاء المدينة الذي تضيؤه الشمس او الاضواء الكهربائية، وبين فضاء الصالة المضاء بالكهرباء واحدة من قدرات النحات على التعامل مع الفضاء بروحية فنية، وليست بروحية استهلاكية ـ نفعية ـ تجارية. وان لم يخل الفن النحتي من هذه المنفعة، فهو ليس فنان حدائق وشوارع، وان كنا نأمل ذلك، بل فنان الصالات والمعارض المتنقلة تلك التي تؤكد على بروز قيمة التشريح للجسد بتفاصيل دقيقة وبرؤية قريبة، وتلك التي تؤكد على الثيمة الجمالية التي تتجسد من خلال العلاقة بين اجزاء التمثال وفكرته ومضامينه ومعظمها مضامين داخلية تجد انعكاساتها وتعبيراتها على الجسد والعضلات فتبرز لقلة انفعالية مشحونة بتوترات المحيط وخاصية الفكرة التي يؤمن بها عندما قال عنها الفنان: انها فكرة اجتماعية وانها من ديون الوطن على الفنان. وليس الفن مهما كان خارج هذه الاطر وهذه الاهتمامات السياسية والفكرية المعاصرة، إلا وهماً، ونحن ابناء وطن مكلوم ومعذب فلا هروب عن ما نؤمن به. مما يعني ان بعدا ايديولوجيا يتضمن تماثيله في قيم جمالية بعيدة عن الهتاف والصراخ والقول المباشر، وهذا الأمر يعود الى استقرار الفنان القلق، وبقاء العراق والفن في اطر المشكلات السياسية، وعدم وجود تعامل منضبط مع الفنانين، خاصة ان الفن العراقي مثل الأدب لا ينمو جيدا ولا يتطور خارج ارضه، وان تطور بقي حبيس الصالات والبيوت، ونادرا ما يجد صداه في الثقافة الغربية، واملنا مفقود في ان نجد دار نشر او جهة عراقية تأخذ بالفنان التشكيلي او النتاج الأدبي، الأمر الذي يعني ان الفن يعاني من اهمال الخارج، واجحاف الداخل، وبالمقابل يطلبون من الفنان ان يكون ضميرهم وصوتهم، فالفضاء في الفن يعني العلاقة بين الفن والمجتمع، والعلاقة بين بنية التمثال الجمالية وحركة التاريخ.

المبدأ الثالث هو المربع. فالمربع الذي نشاهده في اعماله يضفي على تماثيله بعدا رياضيا وبصريا ودلاليا، فهو من حيث تكوينه يعطي للتمثال قيمة جمالية تحدد فضاء معينا يحيط بالتمثال من شأنه ان لا يجعل التمثال في فراغ كلي. وفيه نلمح الصرامة والقوة الرياضية المحسوبة، وقد استعمل المربع والمثلث في الفنون بوصفهما اضلاعا صارمة الحد على العكس من بنية الدائرة المرنة، تلك التي بدأت بها حداثة مدرسة بغداد للفن الحديث عند جواد سليم في العديد من رسومه ومنحوتاته، لنتذكر السجين السياسي والشكل الصارم الذي احاطه، دالا به على العنف الخارجي المحيط بالنفس والجسد الثوريين. لكنه وهو يحدد مساحة ما بالمربع، يصبح جزءا من التمثال. وهذه الثيمة التشكيلية جعلته يتعامل مع المربع بوصفه قيمة تشكيلية تجريدية، في نصب معينة، وبوصفه كتلة، يمكن اختراقها والرسم عليها في نصب اخرى. عندما عمل فيه فتحات هي جزء من بعد التمثال نفسه لتمثال المرأة وظل الرجل او الشهداء الذين تعلقوا في مشنقة المربع، او الانسجام الذي رؤي بزوايا مختلفة كان المربع متكئا عليها وموقعا لاتكاء عليه. المربع كقيمة تشكيلية اعطى لنصبه الصغيرة مبدئيا فكرة الاحتواء الفضائي لبقعة مشغولة بتفكير الشخصية وبدلالة الاسم، مما يعني ان المربع ليس مجرد شكل ملصق بالتماثيل، بل هو تكوين فاعل من تكوينات المخيلة، بحيث نجده يتحول الى فراغ ضمن فضاء، والى كتلة جمالية تشكيلية ضمن فضاء أوسع.

وعندما نتحدث عن العلاقة بين مفرداته النظرية والعملية: الهرم المقلوب، والفضاء، والمربع، نجد ان موقع مكي حسين فنيا هو في منطقة البحث عن هوية شخصية له لا يشبه بها اسماعيل فتاح الذي يميل الى تخطيطاته اكثر من نصبه، ولا الى محمد غني حكمت الذي يميل الى استنساخ تجاربه، ولا الى سليم الهنداوي ولا الى جواد سليم، الامر الذي يجعله في بحث مستمر عن ثيمة وطنية وعن بعد تراثي عراقي قديم وعن ميزة لشخصية فنان عاش المشكلات.

*** هذه المبادئ جعلت من تماثيله في إطار البحث عن سؤال معرفي دائم وعن تصور نقدي يمكننا ان نفترض له بعض المفاهيم التي تعيننا على فهم نصبه الصغيرة. فهي من حيث بنية التشريح للجسد، نجدها مؤكدة من خلال اربع مفردات تشكيلية.

الاولى هي بنية عضلات الجسد العلوية، دون بنية عضلات الساقين. فالفنان يؤكد ان القيمة التشكيلية هي قيمة اكاديمية تكمن في بروز الصدر وعضلات الجسد العليا، معيدا علينا تصورات نحت عصر النهضة. وجماليات الرجل دون المرأة.. تمثال واحد لامرأة تبحث عن ظل رجل.. في حين ان اسفل الجسد ليس الا إما ان يكون متكئا، واما ان يكون ملحقا تابعا لحركة الاقسام العليا. وهذا ما جعله في المفردة الثانية ان يلغي الرأس ويحوله الى كتلة ذائبة في الجسد نتيجة علاقة ما بالآخر المجهول، او موتا له او انعدام تفكيره. وثيمة الرأس الملغي مؤكدة في الفن التشكيلي العراقي عند فنانين كثيرين من امثال محمد راضي وسلمان البصري ومحمد مهر الدين وتخطيطات اسماعيل فتاح الترك وغيرهم، في حين انها عند علي طالب كانت تصورات كونية معتملة بالمجهول وبالمستقبل، فالفكر عند علي له حضور ـ أى ان للرأس المقطوع او الملغي بعدا ايديولوجيا عندما كان قضية يحاسب عليها المثقف في فكره وفي تصوراته فالغى الفنانون الرأس دلالة على الالغاء المتعمد للفكر. فالموت تعذيبا، والشنق واللجوء هربا والشهادة والعلاقة الجنسية المرتبكة، والنوم وغيرها من صور انمحاء تتصل ضمنا بفكرة الغاء الرأس ويزيدها مكي حسين بالغاء اليدين.. وهذه الثيمة الايديولوجية الممارسة على الانسان العراقي عبر تاريخه اعطت للنصب وللوحة قيمة تشكيلية جمالية لا تتأكد من خلال تفاصيل الوجه اكاديميا بل تتأكد من خلال البعد التأويلي للرأس العراقي في محنه وقضاياه.

المفردة الثانية، هي ان الجسد دائما في علاقة سؤال مع الفضاء، لذا كانت كل حركاته متجهة نحو الخارج اما هربا من قضية او مواجها لها او شهادة لها. وهذه الثيمة الجمالية جعلت تماثيله في حركة دائمة الى الامام، متجهة بانحناءة شعرية مندفعة بإرادة، وليس تمثالا ساكنا على بقعة او مسند، والحركة تتجه نحو هدف ما يبدو لنا ان الفنان يتعامل مع القوى الضاغطة على شخصياته من خلال ردود افعال الشخصيات المجسدة امامنا باندفاعها الى امام بقوة، تاركة الارض ومن فيها ومحلقة في فضاء البحث عن سؤال. فكل نصبه تحمل قضيتين معا الاولى قضيتها التي وجدت من اجلها وهي حكاية سياسية في الغالب. والثانية هي قضية الآخر وقواه الضاغطة العمياء التي تمارسها ضد هذه الشخصيات وغالبا ما تكون انظمة دكتاتورية قمعية جعلت تماثيله في حال احتواء داخلي شعري وفي حال رفض وتمرد وثورة على ما يحيط بها.

المفردة الثالثة، تكمن في بنية الطين البلاستيكية التي اعتمدها بدلا من البرونز تمهيدا لصبها لاحقا. فالطين تكوين مطواع، يتلاءم والمشاعر النفسية لا سيما ان علاقته باليد مثل علاقة اليد بالفرشاة. فبعد ان يعمل تمثاله من الطين يصبغه باللون البرونزي، ويتعامل معه كما لو كان برونزا حقيقيا، فيعتق الوانه ليظهر فيه الصدأ، او اجزاء منها ليبدو التمثال لنا في تركيبة شعرية تؤكد ثيمة الجسد في الفراغ.. وهذه المفردة جعلت من اجزاء الجسد مطواعة مع غيرها من الاجزاء ومنسجمة مع الفضاء.

المفردة الرابعة، هي العقل الرياضي الذي يحيط بنصبه الصغيرة، ونعني به كما اسلفنا المربع وحدوده الصارمة في اقتناص فسحة من الفضاء وتقديمها كهالة تحيط بالشخصية. هذه المفردة لم تقف عند تشكيل معين فتارة تمتلئ مساحة المربع بكتله، فتصبح هي النصب، مما يعني ان الفضاء ممكن تحديده، وجذبه الى النصب ـ الارض، واخرى يكون المربع اطارا يحيط الرأس فقط فتتكون كتلة سماوية لتنشأ علاقة مع الارضي، وثالثة يكون المربع سجنا او نافذة او بابا يمكن تجاوزه والخروج من سياجه الصارم. وهو هنا بنية ارضية قاهرة. وفي كل هذه الثيمات ثمت بنية رياضية تتحكم بسياق توجه التمثال وفي فكرته البنائية وفي الكيفية التي سيكون عليها مستقبلا: في صالة يوضع أم في ساحة!

*** إلا ان للفنان مكي حسين قدرة كبيرة على ضبط ايقاعات تماثيله، فيبدو الانسجام كثيمة قارة لوحدها فالتناسب بين اجزاء التمثال، لا تبدو انها جمالية لأجزاء على حساب اخرى. ثمت نغمة توحد سياق العمل الفني كله.

1 ـ الوحدة اللونية المتدرجة من اعلى الى اسفل تلك التي تخللتها بقع معتقة، وكانت اللون الرمادي المشرب بلون البرونز المعتق.

2 ـ توزيع الكتل الصغيرة المتناسب في صدر التمثال وظهره توزيعا متناسبا وحجم وفكرة التمثال، بحيث لا نجد تشابهات بين اعماله بينما نجد ان انفعالات التمثال تظهر بحركة موضعية بارزة وبأخرى ايحائية مباشرة، لاغيا اليدين، معتبرا أن الرأس واليدين يمكن تعويضها عندما يحمل الجسد انفعالاتها، وعدم الاهتمام الكلي بالقدمين حيث قارب بينهما وبين العصي الحاملة.

3 ـ ثمت تناسب في توزيع الخطوط الحادة: البارزة منها والعميقة وهو تناسب جمالي بحيث نجد التباين بين السطح والعمق دالة جمالية على الحس بالفاجعة او بالحال المأساوية التي جاءت خطوطه هنا متعرجة في اعلى التمثال منسابة رخية هادئة في بقية الأجزاء.

4 ـ تنوع جمالي يأخذ مادته البصرية من المشاهد الذي لا يغفل الموضوع الايديولوجي الذي تدل عليه اعمال الفنان، دون السقوط في التبسيطية الفكرية فأعماله خلاصة لتاريخ العسف والاضطهاد في العالم العربي، العراق منه بوجه خاص.

=