أصوات معذبة من أوروبا الأخرى

«المنفي الأبدي» ميلوش و«الطفيلي» شرايبر والياباني موراكامي يكتشف «تشيخوف أميركا»

TT

حسونة المصباحي على الرغم من انه قارب سن التسعين فإن الشاعر والكاتب البولوني الكبير تشسلاف ميلوش الحائز جائزة نوبل للاداب لعام 1980 الذي يحب ان يقول عن نفسه دائما انه «المنفي الابدي»، لا يتعب من الترحال والسفر. وقد جاء اخيرا الى ميونخ بدعوة من «دار الادب» ليتحدث امام جمهور غفير عن ادبه وعن حياته وعن علاقة الثقافة بالسياسة وعن الشيوعية وعن مستقبل اوروبا واشياء اخرى كثيرة.

وقد ولد تشسلاف ميلوش في ليتوانيا عام 1911، غير ان عائلته اختارت الانتساب الى بولونيا وذلك ابتداء من عام 1918. وفي مدينة «فيلنو» حيث امضى سنوات الشباب، اسس مع رفاق له مجلة ادبية حملت اسم «زاجاري» وجعلها ناطقة باسم ما سماه بـ «الحركة الطليعية الثانية». وعقب اقامته في باريس اصدر عام 1936، مجموعته الشعرية الاولى. وخلال الحرب، اقام متخفيا في العاصمة البولونية فرصوفيا واصدر العديد من القصائد وزعت سرا، كما اصدر مختارات من الشعر الكفاحي والنضالي المناهض للفاشية والنازية. وعند انتهاء الحرب الكونية الثانية، عين ملحقا ثقافيا لبلاده في واشنطن 1945 ـ 1949 ثم في باريس. وعندما شرع النظام الشيوعي في بولونيا في ملاحقة المثقفين، وفي كبت الحريات العامة، استقال تشسلاف ميلوش من منصبه، رافضا العودة الى فرصوفيا وذلك عام 1951. غير ان الانتلجنسيا البولونية المعارضة في المنفى استقبلت موقفه هذا بتحفظ كبير فكان عليه ان يعيش سنوات صعبة وشاقة انقطع خلالها عن الكتابة. وفي عام 1960، عين استاذا في جامعة «بركلين» الأميركية. وقبل ذلك كان اصدر مجموعة من الكتب المهمة، منها «الفكر الاسير» وفيه تحدث عن الحملات التي شنها النظام الشيوعي ضد المثقفين البولونيين الاحرار، و«على ضفاف الايسا» وهي رواية عن طفولة مليئة بالاحلام في الغابات الغارقة في الضباب على الحدود بين بولونيا وليتوانيا. وفي كتابه «اوروبا التي لنا» يدرس ميلوش علاقة الاوروبيين الشرقيين بغرب اوروبا، خصوصا من الناحية الثقافية. وخلال اقامته في الولايات المتحدة الاميركية، اصدر العديد من الكتب والمجموعات الشعرية التي اتاحت له شهرة عالمية واسعة والفوز بجائزة نوبل للاداب في ما بعد.

عن اوروبا الاخرى او اوروبا الثانية كما يسميها، يقول ميلوش: «اعتقد انه لا يزال هناك امل في القارة الاوروبية، وهو موجود في الامكانيات المقموعة اصطناعيا في تلك البلدان الواقعة بين المانيا وروسيا، في تلك المنطقة التي اسميها «اوروبا الثانية» التي شرعت خلال السنوات الاخيرة تنظر الى اوروبا الاولى بطريقة عادية، خالية من الاعجاب القديم».

ويضيف ميلوش قائلا: «انا انتسب الى «اوروبا الثانية» هذه. لكنني لست الوحيد. هناك ميلان كونديرا مثلا، وعندما قررت المكوث في الغرب، كان علي ان اختار بين شيئين: اما ان اصبح كاتبا اميركيا، أو ان ابقى محافظا على لغتي الام وعلى تراثي البولوني. لقد ظل نابوكوف يكتب بالروسية فترة طويلة قبل ان يكتب «لوليتا» بالانجليزية. اما انا فقد احسست ان تراثي جد غني. لنقل انني كنت اشعر انني غني بتاريخ هذه المنطقة التي اسميها «اوروبا الثانية» المرتبط بفترة الشباب التي عشتها هناك. وانا اعتقد ان احساسي بالتاريخ اكثر حدة من احساس الغربيين، وخصوصا بتاريخ القرن العشرين. وانا اسعى دائما لدراسة احساسي هذا وابرازه وتعميقه».

وعن دستويفسكي الذي اثر فيه كثيرا، قال ميلوش: «اعتقد ان شاعرا من القرن العشرين بامكانه ان يتعلم الكثير من دستويفسكي. ان واقعية هذا الروائي العظيم هي بمثابة حل الرموز من خلال عنصر بسيط من عناصر الحياة اليومية. فلقد كان يسعى لمسك ما هو اساسي ومهم في المغامرة الروحية والفكرية للانتلجنسيا الروسية خلال القرن العشرين. ان البعد التاريخي لهذا المفكر الديني لم يكن موجودا لوحده، بل هو مصحوب دائما وابدا بالبعد الميتافيزيقي، ونحن نلمس هذا الامر عندما نقرأ كتاباته السياسية التي هي غير معروفة جيدا لدى قرائه».

ومعلقا على قولته الشهيرة «الشعر ملاحقة متحمسة للواقع» قال ميلوش: «نعم لقد قلت انه ليس هناك علم، أو ليست هناك فلسفة يمكن ان يغيرا من حال شاعر يجد نفسه يوميا امام واقع يتجدد دائما، وانما هو معقد ولا يمكن ان ينضب ابدا. واقع يحاول ان يحبسه داخل الكلمات، ساعيا الا يفلت منه الا القليل القليل، ان هذا العنصر البسيط، الذي يمكننا ان ندقق في شأنه اعتمادا على الحواس الخمس، هو في نظري اهم من اي بناء ثقافي. ففي الرغبة التي لا تشبع ابدا، أعني الوفاء للعنصر البسيط، تكمن صحة الشعر وايضا امكانية ان يظل حيا في تلك الفترات التي قد تكون محملة بما يمكن ان يقتله ويقضي على وجوده. بالنسبة لي الشعر، هو ايضا بحث فلسفي لكنه لا «يترجم» بطبيعة الحال الفلسفة الى شعر، لنقل بالاحرى انه تفسير للفلسفة. ان يعرف الشاعر الفلسفة، هذا امر جيد.. لكن شرط ان ينساها. المهم هو ان نعيش المعرفة الفلسفية في الشعر».

وكيف يرى الى الدور الذي يمكن للانتلجنسيا ان تلعبه في اوروبا الشرقية او تلعبه اليوم؟ على هذا السؤال يجيب ميلوش قائلا: «ان الانتلجنسيا هي فئة اجتماعية خاصة ببولونيا وروسيا وبعض بلدان هذه المنطقة من اوروبا. جذور هذه الانتجلنسيا تعود الى القرن الثامن عشر. وقد كانت تضم من كانوا يسمون بـ «الذين يعرفون» اي الناس الذين درسوا والذين من واجبهم ان يضيئوا الطريق امام الآخرين، وان يعتنوا بتربية الجماهير الشعبية. تلك كانت خاصية الانتلجنسيا قديما. وفي القرن التاسع عشر، كانت الانتلجنسيا الروسية تحلم بالثورة. في ما بعد، كانت الضحية الاولى للثورة البلشفية. عندنا، ومنذ ان مسحت بولونيا من الخارطة الاوروبية، وذلك في آواخر القرن الثامن عشر وحتى العشرينات من القرن العشرين كانت مهمة الانتلجنسيا تكمن في ضرورة المحافظة على الهوية الوطنية، ذلك انها كانت تمثل قوة الصمود والمقاومة امام القوة او القوات الغازية. وبعد الحرب الكونية الثانية او بقدوم الشيوعية، وجدت هذه الانتلجنسيا نفسها في وضعية جد صعبة. فالمثقفون البولونيون، عقب ما حل ببلادهم من فواجع ودمار وخراب، كانوا يعتقدون ان الاشتراكية يمكن ان تبنى في بلادهم على الطريقة السوفياتية. انا نفسي كنت الى جانب الشيوعيين بسبب هذا الامل وقد حافظت عليه حتى عام 1949، ثم هيمنت الستالينية على جميع مؤسسات الدولة، وشيئا فشيئا شرعت الانتلجنسيا التي كانت قد ساندت الاشتراكية سابقا تعي الاخطاء التي ارتكبتها في هذا الشأن. وكانت وراء عودة الوعي هذه مجلة «كولتورا» التي تأسست عام 1947 في باريس، والتي عملت منذ العدد الاول على توعية الانتلجنسيا واضاءة العتمة من حولها. وانا اعتقد ان هذه المجلة هي التي هيأت الى جانب عوامل اخرى كثيرة، ليس هنا مجال لذكرها، سقوط الشيوعية. اما الان وبعد ان حدث ما حدث، وجرى ما جرى، فان الانتلجنسيا لا تعرف في اي مكان هي، وهي تدرك انها تواجه تحديات كثيرة وخطيرة. وانا ارى ان مهمتها الاولى هي اعادة تقييم ادب الماضي، سواء كان هذا الادب وطنيا او غير وطني. من الصعب الحكم على الاوضاع الحالية. ومن جانبي، لا انظر بعين الرضا الى الادب في بلادي، ذلك انه بعد ان دافع عن المجتمع، وعن استقلاليته، اصبح الان غير مبال بهذا الامر. لا بد ان يظل الادب قريبا من المجتمع ومن الواقع من دون ان يعني ذلك ان يكون كل كاتب شبيها ببلزاك. على الكتاب البولونيين الان ان يهتموا بالمشاكل التي يواجهها مواطنوهم راهنا، وهناك تحولات كبيرة وخطيرة تحدث الان في بولونيا، بتأثير من الغرب، والاعلام والتلفزيون. وفي هذا البلد الكاثوليكي، اعني بذلك بولونيا، جاءت جموع كثيرة للترحيب بالبابا، وفي الان نفسه صوتت هذه الجموع لحزب ما بعد الشيوعية. واعتقد ان دور المثقفين هو التعبير عن هذه المفارقة، وعن هذه النقطة الحساسة جدا».

وفي نفس هذا السياق، يواصل ميلوش حديثه قائلا: «لقد كتبت نصا مناهضا لما يحدث في الشيشان ذلك انني اعتبر نفسي معنيا بما يحدث هناك. علينا ان نتحرك، ليس فقط كأفراد وانما ايضا كمجموعات لادانة الاعمال اللانسانية التي تقوم بها روسيا. لكن، وللاسف الشديد، يبدو أن الانتلجنسيا الروسية قد تخلت عن المعركة من أجل الديمقراطية. والشعور القومي الشوفيني في تصاعد مستمر. ان يكون واحد مثل سولجنيتسين مع الحرب، هذا امر خطير وبشع. وهو يعني ان المشاعر القومية قد اكتسحت الانتلجنسيا الروسية ورموزها المهمة».

بين ياباني وأميركي في نص جميل، يتحدث الروائي الياباني المعروف هاروكي موراكامي عن الكاتب الأميركي رايمون كارفر الذي يسميه البعض بـ «تشيكوف الأميركي». وهو يقول في هذا الشأن: «كان ذلك في عام 1982، عندما اكتشفت للمرة الأولى قصص رايمون كارفر، والقصة الأولى التي قرأتها له كانت بعنوان: «كثير من المياه قرب البيت». وكانت منشورة ضمن مختارات من القصة الأميركية. حتى ذلك الحين، لم اكن قد قرأت له قصة قبل ذلك ولم اكن قد سمعت باسمه أيضا. على أية حال يمكنني ان اقول ان تلك القصة كانت بمثابة الصدمة بالنسبة لي. بدا لي ذلك شبيهاً بجولة اقوم بها ذات ظهيرة جميلة ومشمسة، ثم فجأة يشع بريق. ففي تلك القصة كان العالم مكثفاً الى درجة تنذر بانقطاع التنفس، كما ان الاسلوب السردي كان بديعا. وعلى الرغم من ان هذا الاسلوب كان واقعياً، فانه كان يتضمن شيئاً عميقاً ونافذا يتجاوز الواقعية البسيطة. وكان احساسي انني امام قصة جديدة تماما، جديدة كما لو انها لم تكتب من قبل أبدا. ان يعتقد انسان ما انه امام كاتب كبير بعد ان يقرأ له قصة واحدة، هذا أمر نادر للغاية. اما بالنسبة لي فقد حدث لي ذلك ثلاث مرات: حدث مع سكوت فيتزجيرارد بعد ان قرأت له «الصبي الغني» ومع ترومان كابوتي بعد ان قرأت له: «الصقر بدون رأس» . والمرة الثالثة كانت مع قصة رايمون كارفر التي اسقطتني على الأرض. بعد ذلك بقليل قرأت له في «النيويوركر»، قصة عنوانها: «هناك حيث اناديك». كانت هي أيضا قصة رائعة تركت لدي احساسا بأن هناك باباً ينفتح على عالم مجهول تماما ليدخل شعاع صغير من الضوء. بعدها بدأت ابحث عن كل القصص التي كتبها بهدف قراءتها. ثم قمت بترجمة البعض منها، لنشرها في المجلات. في ذلك الوقت، لم يكن هناك أحد في اليابان يعرف رايمون كارفر. وكان لنشر تلك القصص المترجمة في المجلات اليابانية، تأثير كبير على القراء حتى انني اضطررت بعد ذلك الى ترجمة اعماله الكاملة. وعندما كنت أترجم، كنت أشعر بعد كل سطر بايقاع تنفسه وحرارة جسده، وتأرجح أحاسيسه. وكان بامكاني ان ألمس المشاعر التي كانت تعتريه وهو يكتب هذا المقطع أو ذاك. وكانت تلك تجربة خارقة بالنسبة لي.

ويواصل هاروكي موراكامي حديثه عن كارفر قائلاً: لم التق بـ«راي» الا في مرة واحدة. كان ذلك خلال صيف 1984، في ذلك الوقت كان قد توقف نهائيا عن الشراب، وانا اتذكر كيف كان يشرب شايه الأسود بكثير من التقزز. بين وقت وآخر، كان يخرج ليدخن. ومن خلال نافذة البيت الذي كان يقيم فيه، آنذاك كان بامكاني ان أرى باخرة متجهة الى كندا ولان انجليزيتي كانت ضعيفة فإني عجزت عن التعبير عن مشاعري بشكل جيد. اما راي فقد كان يتحدث بصوت هادئ وناعم ومتردد. وأول شيء اثار انتباهي حين التقيته كانت قامته الفارعة وكتفاه العريضتان وصدره الواسع ويداه الضخمتان. وقبل ذلك، كنت تخيلته نحيفا وهشا. وعندما كان جالسا امامي، بدا لي انه شديد التبرم من ضخامة هيكله. وحين بلغني خبر وفاته، تصورته يهوى مثل شجرة هائلة.

اليهودي التائه بوريس شرايبر مثال لليهودي التائه كما في الاسطورة. فقد ولد في برلين عام 1923. وكانت عائلته اليهودية قد فرت من روسيا عقب انتصار الثورة البلشفية وذلك عام 1917. وعقب سبع سنوات امضتها في برلين، اضطرت العائلة إلى الرحيل مجددا، ثم استقرت في باريس في غرفة واحدة معتمة، ومتسخة الجدران. وكان في الخامسة عشرة من عمره، عندما شرع الفتى بوريس شرايبر يقرأ قصائده على والديه. وفي الوقت نفسه كان يطرق ابواب الناشرين طالبا مساعدتهم. وعندما يعود حزيناً بعد ان تغلق الابواب في وجهه، كانت أمه تقول له: «يا صغيري العزيز، كن على يقين، ان مخطوطك سوف ينشر في يوم من الأيام. حدسي لا يخطئ أبدا. انت تعلم انك صاحب موهبة كبيرة، بل انت عبقري لذا لا تحزن يا صغيري الجميل. الوحيد الذي نوه به، واستقبله في مكتبه الخاص هو اندريه جيد. وبعد ان قرأ البعض من قصائده، ربت على كتفه وقال له: «انت فتى موهوب». وفي سيرته الذاتية الروائية «صمت يقارب نصف الساعة» التي يروي فيها بعضاً من وقائع حياته بين عام 1936 وعام 1944، يصور نفسه فتى متكبرا، واثقا من نفسه وسط اوروبا الجريحة والمذعورة في حين كانت مدافع الحرب تضرب كل ما هو حي فيها. وفي كتبه الاخرى، «حليب الليل» و«زهرة عباد الشمس الممزقة» التي يروي فيها فصولا طويلة من حياة عائلته، فقد التقى والده بأمه في موسكو وكان آنذاك طالبا في الحقوق، وبعد الزواج، اندلعت الثورة في روسيا، ففر الزوجان الشابان الى برلين وليس معهما غير متاع قليل، وهناك ولد بوريس، الشيء الذي أتاح له في ما بعد أن يتعلم الألمانية الى جانب الروسية. وعند قدوم العائلة الى باريس، تعلم الفرنسية وقرر ان يكتب بها. وبعد الحرب العالمية الثانية، حصلت العائلة على الجنسية الفرنسية. واليوم يقول بوريس شرايبر: «الكاتب الحقيقي لا بد ان يكون طفيليا. الكاتب هو الذي يعبر عن الكائن البشري. لكن من هو الكائن البشري الذي يعيش على الأرض؟ وعكس كل النباتات التي تغذي نفسها بنفسها، يتغذى الانسان من كل ما يحيط به تماماً مثل الحشرات الطفيلية. غير ان الانسان طفيلي ضروري. اما الكلمات فهي قوته الخارقة. والذي يعرف الكلمات، يعرف الانسان».