العراق: من ربع مليون نسخة في السبعينات إلى 15 ألف نسخة اليوم

TT

حذر مختصون في ثقافة وأدب الأطفال في العراق من التراجع الكبير الذي لحق بهذا المجال، وإهماله خلال السنوات الماضية من قبل القائمين عليه والحكومات التي تعاقبت على البلاد، بشكل وضعه في أسفل قائمة اهتماماتها، مما انعكس سلبا على واقع بناء الطفل العراقي وثقافته، بالإضافة إلى هجرة معظم رسامي وفناني أدب الأطفال إلى الخارج، أو تركهم مهنتهم إلى مهن أخرى بعد أن عافها الجميع.

وكان العراق قد شهد نهضة كبيرة في ريادة أدب الطفولة، بشكل سبق غيره من دول الشرق الأوسط عبر إصداره العديد من الكتب والمجلات الرائدة والمتخصصة في ثقافة الطفل. فأول مجلة للأطفال ظهرت في بغداد وهي مجلة «التلميذ العراقي»، وذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1922، أي عقب تأسيس الحكم الوطني، ثم صدرت مجلة «الكشاف العراقي»، وأعقبها صدور مجلة باسم «المدرسة»، ثم مجلة رابعة باسم «الطلبة»، وبعد ذلك صدرت مجلة خامسة حملت اسم «الفتوة»، ثم مجلة «دنيا الأطفال»، و«الجيل الجديد»، و«الأم والطفل» وغيرها وكل تلك المجلات صدرت خلال الأعوام من 1922 - 1950. لكن ماذا عن الواقع الحالي؟

يقول الفنان عبد الرحيم ياسر، وهو رسام للأطفال منذ عام 1970: «دار ثقافة الأطفال، إحدى دور وزارة الثقافة العراقية، هي الآن الدار الوحيدة في البلاد المعنية بإنتاج ثقافة الطفل، عبر إصداراتها من كتب ومجلات ومسرحيات، وغيرها. وحاليا اقتصر دورها على إصدار مطبوعين فقط، هما (مجلتي) و(المزمار)، بواقع عدد شهري لكل منهما، إضافة إلى سلسلة كتب متنوعة أخرى، لكنها محدودة التداول بسبب قلة أعداد طبعها. لكن في ما مضى وبالتحديد لدى تأسيس مجلة (مجلتي) عام 1969 كانت هناك مجموعة من الرسامين والكتاب المحترفين الذين تأثروا وابتكروا وغامروا أيضا في إنتاج ثقافة متميزة للطفل، وكان العراق يزخر بالرسامين القادرين على تمثيل الأفكار بشكل جميل مما أثار إعجاب الناشرين العرب، خصوصا في المعرض الأول لمنشورات الأطفال في لبنان في سبعينات القرن الماضي».

ويضيف: «كانت الدار تصدر سنويا في نهاية السبعينات ما يقارب (100) عنوان ما بين كتاب وموسوعة للصغار من شعر وقصة، وكان العراق من أنشط دور النشر في الشرق الأوسط، مقابل قلة إنتاج الدول العربية، مما أسهم في وضع بصمة واضحة للأدب العراقي في الثقافات العربية. وهناك قراء عرب، من الرعيل الأول، ما زالوا يتذكرون مجلتي (مزمار) و(مجلتي). أما اليوم، فقد تغير الحال كثيرا بسبب كثير من المتغيرات، التي بدأت في مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، عبر مرحلة ما كان يسمى (أدب المعركة)؛ إذ جرت عسكرة الثقافة، أيام الحرب العراقية - الإيرانية. وقد أثر ذلك الوضع على الدار، على الرغم من وجود طليعة واسعة من الرسامين والكتاب الذين حاولوا الحفاظ على نتاجهم كما هو، لكنهم انحسروا قليلا. وفي سنوات التسعينات ضيق كثيرا على الثقافة في العراق كلها بسبب الحصار الاقتصادي، ومنها ثقافة الأطفال، وبدأت هجرة الكتاب والرسامين لأول مرة بسبب الوضع المادي؛ إذ غدا عملهم غير مجد، واختفى كثير منهم، فيما انحسرت المطبوعات، وأصاب القحط أحوالها».

وحسب ياسر، ازدادت مشكلات الدار بعد عام 2003، عندما عمد مخربون إلى حرق دار ثقافة الأطفال، و«بدأنا نعمل بالقليل المتبقي، ولم يكن وقتها كرسي واحد يصلح للجلوس عليه، كنا نرسم ونكتب في البيوت، لنواصل العمل، لكن عدم استقرار البلاد وخراب المطابع أبطأ كثيرا من عملنا، وصرنا نطبع بأقل كثيرا من حاجة السوق، كذلك توقف الصدور تماما خلال أعوام 2006 و2007 بسبب أحداث العنف والاقتتال الطائفي، وحاليا يصل عدد النسخ المطبوعة إلى 7500 نسخة شهريا، لكل من (مجلتي) و(المزمار)، في وقت كنا نطبع فيه ربع مليون نسخة لكل مجلة».

وعن أهم مشكلات الدار، يقول عبد الرحيم ياسر الذي يشغل حاليا منصب معاون مدير عام «دار ثقافة الأطفال»: «أهم مشكلة نعانيها هو عدم وجود دار حكومية للطباعة؛ إذ إن الدار الحكومية الوحيدة الموجودة لم يعد تأهيلها وهي (الدار الوطنية للتوزيع والنشر)». ويتساءل: «الثقافة عندنا لا تصل إلى الداخل، فكيف نريدها أن تصل للخارج؟ نحن قادرون على إنتاج مجلات بمستوى عال من ناحية الطباعة والأفكار والموضوعات والرسوم تناسب المجلات العربية اليوم، ولكن المشكلة تكمن في عدم وجود مؤسسات مهنية، ونحن نعاني مع الأسف من فوضوية في التعيينات وتداخل الإدارات غير المتخصصة على إدارة الدار منذ سنوات. المؤسسة اليوم، غير قادرة على طبع 10 كتب بسبب ضعف التخصيصات المالية، ، مما يعني تراكم الكتب سنوات طويلة حتى يحين مجال نشرها. أي حافر يبقى للفنان والكاتب في مثل هذه الحالة؟ لم تستطع الدولة إعادة هيبة الكتاب، لأنها مشغولة بشؤون أخرى، وكانت النتيجة أنها وضعت الثقافة في أسفل سلم أولوياتها. ومع ذلك، نسعى اليوم إلى إصدار موسوعة كبرى تضم النتاجات والصور لكل من أسهم في (دار ثقافة الأطفال)، حماية وحفاظا على إرثنا الكبير، وذلك ضمن مشروع (بغداد عاصمة الثقافة العربية)». أما الكاتب عبد الرزاق المطلبي، أحد أهم كتاب الأطفال في العراق، فقال: «على الرغم من كل الفعاليات والأنشطة المتعددة التي تقوم بها الدار عبر إقامة المهرجانات والندوات والحلقات الدراسية، فإننا نحن المعنيين بثقافة الأطفال، الذين نعد من مؤسسي هذه الدار، الذين أعطيناها من أعمارنا أكثر من 40 سنة، نرى أن هذا الاهتمام شكلي، لا يصب في إعطاء الدار القدرة على المواصلة والتطور. (دار ثقافة الأطفال) منذ عام 2003 وإلى الآن في حال يرثى لها لأنها المؤسسة الوحيدة في الدولة العراقية التي تعمل من دون اعتماد مالي. لم يعن أحد في الدولة من أصغر مسؤوليها إلى أكبر المسؤولين فيها بالنظر إلى حال (دار ثقافة الأطفال)، وقد استنفدت كل أبواب الوقوف أمام بعض الوزارات للحصول على بعض الأموال حتى يستطيعوا طبع هذا الكتاب أو ذاك أو طبع عدد من مجلة (مجلتي) أو طبع عدد من (المزمار)».

وهل يعتقد المطلبي أن الدار بإمكانها أن تقوم بدورها ذاته في عصر الفضائيات والصورة؟ يقول: «نعم.. بالتأكيد، الدار هي الخط الأساسي للثقافة المكتوبة. وقد وضعنا تصورا لإنتاج برامج ثقافية، مثل إطلاق قناة فضائية للأطفال وأعددنا العدة لإطلاقها، وكذلك وضعنا تصورات كثيرة وخططا لإنتاج أفلام رسوم متحركة (أفلام كارتون) وإنتاج مسرحي حقيقي، وغير ذلك من الخطوط العديدة التي تنطلق من فكرة ثقافة الأطفال. لكن إن كانت الدار لا تستطيع أن تطبع كتابا أو مجلة، فكيف يكون بإمكانها أن تحقق كل هذه الخطط؟».