محمد صالح القرق: تمرنت على ترجمة الرباعيات منذ كنت في العشرين وأنا الآن في الثالثة والثمانين

بعد اثنتين وعشرين ترجمة أخرى لـ«رباعيات الخيام» بأربع لغات

محمد صالح القرق
TT

اعتدت على زيارة الأديب ومترجم رباعيات الخيام الإماراتي محمد صالح القرق في منزله، حيث مكتبته لا تجعلك صامتا بل تنتزع منك الأحاديث لتبادلها مع صاحبها حتى لو كان قليل الكلام وكثير التأمل. تضم مكتبته نحو 8 آلاف كتاب، أغلبها كتب تراثية مثل «المستطرف»، و«كليلة ودمنة»، و«تاج العروس».. و«الأغاني».. وغيرها.. والتي ورث جزءا منها من مكتبة أبيه. والرجل متعدد المواهب، يبحر ما بين كتب التراث والموسيقى والترجمة ويتقن الفارسية والأوردية والإنجليزية، وقد خصص مكتبة ضخمة في إحدى زوايا مكتبته الكبيرة لكل ما كُتب عن الخيام بجميع اللغات. ولا يصدر كتاب عن الخيام إلا ووجدته في مكتبته، حتى لو كان الكتاب صادرا في الصين. هذا الشغف جعله ينفق نحو عقد من عمره المديد في ترجمة الخيام نظما شعريا لا يقل نضارة عن شعره الأصلي باعتراف قسم كبير من النقاد.

قلت له: هل كتب الخيام باللغة العربية؟.. أجابني: «أجل»، واستشهد له بهذه الأبيات:

سبقت السائرين إلى المعالي..

بثاقب فكرة وعلو همه

فلاح لناظري نور الهدى في..

ليال للضلالة مدلهمه

يريد الحاسدون ليطفئوه..

ويأبى الله إلا أن يُتمه..

ثم أضاف: «لكن الشهرة التي نالتها رباعياته الفارسية طغت على شعره العربي، فترجمت هذه الرباعيات إلى لغات عدة، في الشرق والغرب ولا يزال الدارسون مولعين بشعره ترجمة ونقدا. ولم يفكر أحد ممن عاصروه في جمع رباعياته إلا بعد رحيله بثلاثة قرون ونصف قرن. ولعلهم كانوا يخشون جمعها لما حوته من جرأة وحكمة». وأول ترجمة للرباعيات كانت للغة الإنجليزية، وظهرت عام 1859. ثم توالت الترجمة العربية لهذه الرباعيات. أما كتاب رباعيات الخيام الذي ترجمه القرق، فيتميز بكونه صدر بأربع لغات: الفارسية والعربية والإنجليزية والفرنسية عام 2008 عن دار «المناهل» في بيروت، ويعاد طباعته قريبا.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هو: لماذا أقدم الشاعر والأديب محمد صالح القرق على ترجمة رباعيات الخيام بعد أن ترجمها اثنان وعشرون مترجما؟

يجيب: «هذا صحيح.. ترجمتي لرباعيات الخيام هي الثالثة والعشرون. لقد نوهت بذلك في مقدمة الكتاب. لذلك حرصت على تثبيت أسماء وصور المترجمين الذين سبقوني في ترجمة هذا العمل. وهذا عمل لم يسبق لأي مترجم أن عمله من قبل أبدا. بعضهم قام بعمل تجاري لا أكثر ولا أقل. وحرصت على أن أطبع هذه الترجمة طباعة فاخرة تتناسب مع عمل الخيام الإبداعي، وقد بذلت جهدا كبيرا في الحصول على هذه الصور والمراجع وهو عمل أرشيفي. وجميع الترجمات موجودة عندي. كانت لدي هواية في رباعيات الخيام منذ صغري، وشدتني وأنا صغير وكنت قد قمت بمحاولات ومقارنات بين الترجمات في ثلاثين حلقة نشرتها في مجلة (الشروق).. على سبيل المثال، ماذا قال أحمد رامي والصافي النجفي، وماذا قال المترجمون الآخرون، وفي الأخير ماذا قلت أنا».

* كم استغرقت من الوقت في ترجمة رباعيات الخيام؟

- لقد أمضيت تسع سنوات أو أكثر في ترجمة رباعيات الخيام، ولأن القافية في أي ترجمة مهمة للغاية، فإن ذلك يقتضي جهدا كبيرا، لأن الصياغة تتم شعرا وليس ترجمة حرفية، والترجمة الحرفية هي من أسوأ ما يمكن أن يقوم به المترجم. لقد أضفت الترجمة الإنجليزية والفرنسية إلى النص لكي تكون له قابلية القراءة في الغرب. ونلاحظ أن الكثيرين في الغرب ركزوا على ترجمة «فيتزجيرالد»، بينما أوردت ترجمات لمترجمين غربيين آخرين. وقد نوّعت الترجمة مما جعلني أبذل جهودا كبيرة في العثور على هذه الترجمات. إنها معاناة طويلة. عملية بحث في المكتبات. أحيانا لا أجد الترجمة الإنجليزية ويجب أن أبحث عنها. وذلك استغرق وقتا طويلا، ولم أعثر على ترجمة رباعية «الوردة» على سبيل المثال، إلى أن وقع نظري على كتاب جديد صادر في أميركا على الإنترنت، فطلبته على الفور، وإذا بي أجد ترجمة هذه الرباعية، فضمنتها في كتابي، وأكملت بها النص.

* هل أنت غير مقتنع بهذه الترجمات أم أردت أن تقدم ترجمتك الخاصة؟

- ترجمتي لرباعيات الخيام لا تعني أن الترجمات السابقة رديئة، لكني أجد أن أفضل من قام بترجمة هذا العمل الأدبي الزاخر هو عبد الحق فاضل وأحمد الصافي النجفي. أحمد رامي قام بترجمتها غنائيا، وغنتها أم كلثوم كما هو معروف. على سبيل المثال يقول المترجم «سمعت صوتا ساحرا نادى من الغيب»، بينما الصوت لم يناد من الغيب، بل من الحانة. لقد اضطر المترجم لتغييرها وربما لضرورات معينة. هذا مثال بسيط وهناك أمثلة أخرى، لكن ترجمتي تحتوي على جميع الكلمات الواردة في النص الأصلي، بينما سعى كثير من المترجمين إلى إهمال كلمات والإتيان بكلمات من عندهم، بينما حرصت على أن أترجم جميع الكلمات الواردة في النص الشعر الأصلي (الفارسي)، دون الإخلال بالمعنى، وحافظت على روحية النص. المترجم لكي يترجم شعرا يجب أن يكون شاعرا، وإذا ترجم نثرا يجب أن يكون كاتبا.

* هل تعتبر نفسك مترجما؟

- لا أعتبر نفسي مترجما، ولم أترجم سوى رباعيات الخيام، وهذه الترجمة أخذت مني مجهودا كبيرا، وتطلب ذلك إخلاصا ووفاء للنص. منذ سنواتي الأولى فكرت في ترجمة الرباعيات. كان يزورنا صديق لأبي عالم كبير ومطلع على اللغة العربية، شاعر وأديب، وكان صوته جميلا وكان يترنم بالرباعيات، فاستهواني صوته الجميل، وكلماته، فصرت أردد الكلمات وحفظت أشياء كثيرة، ثم صرت أقلد هذا الشعر، بعد ذلك استهوتني الترجمة. كنت أتمرن على ترجمتها منذ كان عمري عشرين عاما، وبدأت أجمع الترجمات الأخرى، في مكتبتي جناح كامل فقط للخيام، باللغات الروسية، والفرنسية، والصينية.

* كيف يمكن لك أن تجمع بين الأعمال والأدب، في العادة معظم رجال الأعمال لا علاقة لهم بالأدب؟

- تجد في رجال الأعمال ربما نفرا قليلا يهتم بالأدب، وذلك يعود إلى أن الأعمال لا تتيح لهم فرصة التفكير في شيء آخر، يفكرون على الدوام بالصفقات والمال. أما الأدب فيحتاج إلى تفكير، وقراءة، وتأمل، وهدوء، وسكينة، وليس ضوضاء وتشويشا فكريا. تعلمت تعلما ذاتيا حيث لم تكن المدارس متوافرة في دبي آنذاك، فكنت أذهب إلى الكتاتيب. إنني لم أذهب إلى الخارج ولم أحصل على دراسات عليا بل علمت نفسي تعليما ذاتيا. تتوافر عندي القابلية والهواية ولدي مكتبة كبيرة كما تعلم. كان والدي يهوى الأدب، وله مكتبة كبيرة على قدر تلك الأيام تحتوي على كتب التراث، فكنت أطلع عليها، وأجد فيها حكايات عجيبة وغريبة. وكان لي استعداد لتذوق الأدب. وكنت أسافر إلى مصر وأطلع على المكتبات وأحضر الندوات الأدبية والفكرية التي كانت على مستوى كبير، يحييها كبار الأدباء والمفكرين. وزرت معظم الأدباء المفكرين أمثال: نجيب محفوظ، أنور الجندي، حسين نصار، مصطفى محمود، وكثيرين غيرهم.

* في نهاية المطاف أنت شاعر، لماذا لم تنشر قصائدك في ديوان لحد الآن، وما هو مفهومك للشعر؟

- لدي خزين من الكتابات الشعرية لكني لم أجمعها بعد في ديوان، وأسعى لجمعها الآن. لم أصدر ديوانا من قبل لكني أنشر شعري في الصحف والمجلات. وشعري هو من الموزون والمقفى، ولا أحب الشعر الذي يسمى نثرا. الجيد منه وليس كله يمكن أن نطلق عليه النثر الفني. وكما يقول العقاد: «والشعر من نفس الرحمن مقتبس، والشاعر الفذ بين الناس رحمن». وعلى الجارم يقول: «ليس في الشعر كلام بين بين»، وعلي الجابر يقول: «الشعر نفحة قدسية أو هذر»، لا يوجد وسط إما في الأعالي أو في الحضيض.

* ما رأيك في المثل الشائع «الترجمة خيانة»؟

- على الأقل إنها خيانة جميلة.

* بعد الفراغ من ترجمة الرباعيات، ماذا تعمل الآن؟

- أعمل حاليا على تأليف ثلاثة كتب جديدة: الأول كتاب «الأمثال في اللغة العربية»، الذي يحتوي على الأمثال كاملة دون اجتزاء لأن المتداول منها هو مقاطع فقط وليس الأمثال بكاملها. إنني أحفظ الأمثال كاملة وليست مجزأة كما يفعل الآخرون، أي أحفظ ما قبل المثل وما بعده. «وربما صحت الأجساد بالألم»، ماذا يوجد قبلها؟.. «لعل هجرك محمود عواقبه». وهناك مثل يقول: «ليتني مت قبل يوم فراقي»، ويوجد قبله «إن يوم الفراق أصعب يوم». «وكل قرين بالمقارن يقتدي» ما هو قبلها؟.. «عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه».. وهلم جرا. ولدي مشروع لجمع هذه الأمثال كاملة.. ما قبله وما بعده.

أما كتابي الثاني «الوصف في اللغة العربية» فهو يتتبع كل أشعار الوصف، على سبيل المثال: يصف الشاعر ابن المنجّم قائلا:

«للورد عندي محل لأنه لا يُمل.. كل الرياحين جند وهو الأمير الأجل».

وخصصت لكل وصف صفحة كاملة مع الصور. وهكذا بالنسبة لوصف الطواويس والجمال والخيول، وغيرها. إنه مجهود فردي، ولا يوجد معي فريق عمل لإنجاز مثل هذه الموسوعات.

والكتاب الثالث هو «مقارنات رباعيات الخيام»، ومقارنتها يكشف علم الترجمة عند العرب. عملت 75 مقارنة وأريد إنجاز 100 مقارنة. وعندي مشروع كتاب جديد «كشف الحجب عن مقدمات الكتب»، أجمع فيه مقدمات الكتب التراثية في كتاب ومقدمة «ألف ليلة وليلة» وغيرها. وأعمل على تحقيق كتاب ابن المقفع «الجوهرة».

* سيرة ذاتية

* ولد محمد صالح القرق في مدينة دبي عام 1930. درس في مدرستي «الفلاح» و«الأحمدية»، وهما المدرستان الرائدتان في دبي حينئذ. كان منذ صغره مولعا بالأدب والثقافة، ونهل من معين الكتب التي كانت تحتويها مكتبة والده. تدرج في وظائف رسمية لسنوات عدة، ثم اعتزل الوظيفة، وتفرغ لأعماله التجارية الخاصة، ولهواياته الأدبية والثقافية. يجيد اللغات الإنجليزية والفارسية والأردية علاوة على لغته العربية. لم ينشر لحد الآن ديوانا شعريا، بل نشر معظم شعره في الصحف والمجلات، وله معارضات شعرية لـ«سينية البحتري»، و«نونية ابن زيدون»، و«لامية الحصري القيرواني». كان له باب أسبوعي ثابت في مجلة «الرياضة والشباب» بعنوان «غيض من فيض» يحتوي على باقة من الشعر والحكم ولأمثال والطرائف والنكت الأدبية والعلمية.