بغداد عاصمة ثقافية؟

فاضل السلطاني

TT

تتوافق ذكرى عشر سنوات على «السقوط» - كما يسميه العراقيون ولا تعرف بالتحديد ماذا يقصدون، سقوط صدام أم سقوط بغداد أم الاثنين معا - مع إعلان بغداد عاصمة للثقافة العربية، وهو توافق غريب حقا. وعلى أي حال، تفرض المناسبتان كلتاهما طرح العديد من الأسئلة الحارقة: ما الفرق بين بغداد تلك وبغداد الآن.. من نهب المتحف العراقي إلى «تتويجها» الثقافي العربي، وقبل ذلك، بين بغداد صدام حسين وبغداد نوري المالكي؟ هل تدارك المالكي ثقافيا ما فعله الأول؟ لا يبدو أن الأمر كذلك بعد عشر سنوات من خراب بغداد، ودورتين لرئيس الوزراء العراقي الحالي. كان صدام حسين يعرف، على الأقل، أي تأثير كبير يمكن أن تتركه الثقافة على البنية الاجتماعية، وأي خطر أيضا تشكله على نظامه ثقافة ذات تقاليد تنويرية عريقة، كالثقافة العراقية، فابتدأ بمحاولة «تبعيثها». وحين فشل في ذلك، استهدف رموزها سجنا وقتلا وتشريدا قبل أن يبدأ بالسياسيين. وفي عام 1978 وحده، استقبلت بيروت، واحتضنت أيضا، نحو 500 مثقف عراقي، ولم يكن قد هاجر من السياسيين نصف هذا العدد، ثم لحقهم مئات آخرون. هؤلاء لا يزالون في المنفى.

هذه الأهمية التي كان يدركها صدام حسين، ولو غريزيا، يقابلها ازدراء تام للثقافة والمثقفين، تحكمه عوامل مختلفة في مقدمتها الجهل وعقد النقص.

في اجتماع عام مع رئيس الجمهورية العراقية جلال طالباني نظمته مؤسسة «المدى» في أربيل عام 2006، وهو أول مهرجان للمثقفين العراقيين يعقد بعد سقوط نظام صدام حسين، وضم أكثر من 400 مثقف، دعا المجتمعون، على لسان رائد المسرح العراقي يوسف العاني، إلى عدم شمول وزارة الثقافة بالمحاصصة البغيضة. لم يسمع أحد. وأكثر من هذا، كان حتى «المحاصصون» يقبلونها على مضض، فاختاروا مرة شرطيا سابقا لإدارتها، ومرة قاتلا هرب من العراق، ومرة بائع خضراوات - مع احترامنا للمهنة - والآن قبل مشكورا أن يتولاها وزير الدفاع.. وكالة!

هذا «التقدير» للثقافة والمثقفين انعكس أيضا في مقابلة رئيس تحرير هذه الجريدة د. عادل الطريفي مع رئيس وزراء العراق («الشرق الأوسط» 9- 2- 13). كان السؤال محددا: ما الذي يشدك من الكتاب العراقيين؟ وكان الجواب قائمة من كتاب عرب ذوي لون واحد «محمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين.. هيكل وفهمي هويدي ومحمد عمارة.. إلخ». ولم تضم القائمة سوى كاتب عراقي واحد هو محمد باقر الصدر! ألا يعرف رئيس وزراء العراق، الذي سيلقي خطاب افتتاح «بغداد عاصمة للثقافة العربية» سوى الصدر، ملهم حزبه، حزب الدعوة؟! إذا كان صدام حسين قد قتل ونفى الكتاب العراقيين، اعترافا ضمنيا منه بقيمتهم وتأثيرهم، ولو كان اعترافا دمويا، فإن المالكي ألغى وجودهم تماما، ولا فرق جوهريا بين موقف الرجلين، أم أن المالكي لا يعرفهم أساسا، في ضوء إجابته في المقابلة؟

كم كان غوبلز محقا، مثل صدام حسين، حين قال مرة: كلما سمعت كلمة ثقافة رفعت مسدسي. كان يعرف أن لا شيء أكثر خطرا وتأثيرا من الثقافة، لا خطب هتلر، ولا وزارة الدفاع ولا أمن الداخلية، ولكنهم لا يفقهون.

بغداد لا تحتاج كرنفالا ثقافيا كاذبا جديدا. لقد كانت، في الأيام الخوالي، عاصمة حقيقية للثقافة العربية، إلى جانب القاهرة وبيروت ودمشق، من دون أن تحتاج إلى كرنفال. وهي تحتاج الآن، وقبل كل شيء، إلى مسارحها وسينماتها، التي تحولت إلى مخازن، وشارع رشيدها الذي تملأه النفايات الآن، وتحتاج منفييها الذين لم يعد أحد منهم سوى عدد محدود جدا، وجثامين الجواهري، والبياتي، وهادي العلوي، وبلند الحيدري، وغائب طعمة فرمان، ومصطفى جمال الدين، ومحمود صبري، وعشرات آخرين ممن شردهم صدام حسين، المدفونة في مقابر الغرباء ولم يفكر أحد في «العراق الجديد» في إعادتها لتربتها الأولى، لتحيا بهم بغداد مرة أخرى عاصمة حقيقية للثقافة العربية.. من دون كرنفال.