مان راي يبتكر الفوتوغراف بالرسم والرسم بالفوتوغراف

حنط لحظات بيكاسو ودالي وخوان ميرو وآخرين

بورتريه الفنان بريشته
TT

«الجمال هو اسم شيء لا وجود له، وهو ما أمنحه أنا للأشياء مقابل ما تمنحني من بهجة».

كانت أبيات بيسوا هذه آخر ما قرأته من قارئي الإلكتروني وأنا أنتظر دوري لشراء بطاقة الدخول (باهظة الثمن) إلى المعرض الاستعادي لواحد من أهم مصوري القرن العشرين في «الناشيونال بورتريت غاليري» في لندن.

صالات العرض ضمت 150 عملا فوتوغرافيا فقط برهنت واقعية أبيات بيسوا، فقد ابتكر مان راي الجمال وحنطه بلقطاته ولوحاته التي كانت بانتظار الزائرين.

لوحاته تتناغم فيها قبائل ضوء وظل تغمر موديله أو موضوعه. لقد فعل الصواب ذلك الفتى النيويوركي المتحدر من عائلة روسية يهودية مهاجرة امتهنت الخياطة وتجارة الملابس، حينما سمع نصيحة صديقه المقرب (مارسيل دو شامب) بأن يتجه كليا إلى التصوير الفوتوغرافي وقد كتب دو شامب عن مان راي فيما بعد قائلا: «كان إنجازه الأهم إنه تعامل مع الكاميرا كما يتعامل مع فرشاة الرسم، كوسيلة خالصة لتحقيق رؤاه الجمالية»، لكن مان راي يميز في ذاته الرسام عن المصور: «أنا أرسم ما لا أستطيع تصويره، الرسم يأتي من المخيلة أو من الأحلام أو من اللاوعي، بينما تلتقط عدستي الأشياء التي لا أقدر على رسمها، الأشياء الموجودة أصلا».

مان راي الذي رقص على حافة السوريالية إبان تشكلها في باريس يتوارى خلف لقطاته الفوتوغرافية وخلف موديلاته، كأن لوحاته الصورية فيلم سينمائي طويل ومتسلسل يمثله بشكل رائع معرضه الحالي في «الناشيونال بورتريت غاليري» والذي يغطي سنواته في باريس ونيويورك وهوليوود ولندن. لوحاته ليست فقط وثائق صورية لحقبة معينة، بل هي تمثيل عميق وفاضح لهؤلاء الأشخاص عبر حلقاتهم الفنية والأدبية التي يمثلونها.

هناك علاقة وثيقة جلية في صوره مع شخوصه، فهم إما أصدقاؤه وهو يحتفي بهم على طريقته، وهذا نادر الحدوث بين أصدقاء الحقبة الواحدة، وكأن حياته يمكن قراءتها من خلال صور أصدقائه وعشيقاته أو نجمات سينما مشهورات. هناك هوس لديه كما عند معظم السورياليين بالجسد الإنساني العاري وهذا المعرض مليء بالصور العارية التي تتجاوز الغواية إلى توثيق الجمال بكل معانيه ومن كل اتجاهاته بعدسة الكاميرا.

حياته تناثرت بين صور (كيكي) المغنية الباريسية الشهيرة، التي ارتبط معها بعلاقة حب وعمل منذ قدومه إلى باريس عام 1922، وبعدها المصورة والصحافية الأميركية (لي ميلر) من عام 1929 إلى عام 1932، حيث ابتكر بمساعدتها أسلوب التشميس (وهو تسجيل الصورة ذاتها على صورة مطبوعة على أساس أن تكون الألوان متعارضة كليا أو جزئيا مع لونها الأصلي، حيث تظهر مناطق اللون الأبيض سوداء وتظهر المناطق السوداء بيضاء اللون بدرجات متفاوتة). وبعدها مرحلة الراقصة (آدي فيدلين) من عام 1936 إلى 1940 عندما غادر مان راي باريس الممزقة بسبب الاحتلال النازي عائدا إلى الولايات المتحدة، حيث تزوج من (جوليت براونر) التي بقيت معه إلى وفاته عام 1976. كل لوحاته عن عشيقاته وخصوصا (لي ميلر) مشحونة بعاطفة وانجذاب للجسد وتقدير للكائن ومحاولة إبراز هذا الكائن وخفاياه.

صورته المشهورة عن الماركيزة الإيطالية (كاساتي عام 1922)، التي تصورها بأربع عيون، ليست وليدة خدعة، بل نتيجة التصوير المزدوج للعينين وإلصاق صورتي العينين على بعضهما لتبدو الصورة ذات نظرتين متلاحقتين مما جعلها غلافا لمجلة «كفنتري فير» المشهورة للأزياء.

الصور المعروضة تظهر معرفة حقيقية للرسم بمنح الوجوه حضورا قويا باستخدام الضوء وبتقديم الوجوه على خلفية مناسبة معتمة، وكثيرا ما أضاف مان راي مربعا لكي يركز على بؤرة الصورة. وهناك أيضا اهتمام عميق بالعمليات التي تجرى على الصور بعد أن تلتقط. نلاحظ ذلك في صوره الشخصية التي يلتقطها لنفسه, التي غالبا ما تظهره في معمل تحميض الصور أو في مرسمه على الرغم من أنه كان يصرح: «لقطاتي هي أعمال ضوئية بحتة». نعم، فالمناورة بالضوء والظلال وأشباههما في غرفة مظلمة كانت تفتنه وتحفزه للتجريب أكثر.

ورغم أنه يعد من رواد السوريالية، لكنه لم يكن يبالغ في سلوكه أو أعماله لجذب الانتباه إليه، ولم يصور شخوصه على أنها موديلات يمكن التلاعب بها فنيا لخدمة غرضه فقط. ما حاول التقاطه وتثبيته بلوحاته الفوتوغرافية هو الشعور العالي بالفردانية لدى موديلاته، فهناك استيعاب وموازنة بين الصورة الفنية وبين رغبة شخوصه بالظهور كما يحلمون وكما هم عليه حقيقة، كما في بورتريت (باربيت/ 1926، فنان سيرك يلبس أزياء النساء) فهو يظهره بظلال لنهدين على صدره المسطح مع تركيز على شفتيه ونظرته الأنثوية الصارخة، ويضيف صورة صغيرة أخرى له أثناء الاستعراض كخلفية لوجهه.

وهناك أيضا بورتريت لفرجينيا وولف التقط عام 1934 يظهر ذكاءها وحساسيتها المفرطة. إنها ترفع يدها كأن أصابعها تكلم الكاميرا بينما يميل وجهها ونظرتها نحو اليسار. صور (ميريت أبو نيام الفنانة السوريالية والموديل) حكايات قائمة بذاتها. في إحدى الصور الصغيرة جدا تقف ميريت بجسدها المرمري عارية إلا من ضياء نافذة، بينما يقف مان راي خلفها، يمسك يدها، واليدان معا تستقبلان الضوء باستسلام. (نانسي كونارد) تفرط في لبس الأساور العريضة تسريحة شعرها تظهرها ذات عزيمة فائقة. (إفا كاردنر) الممثلة الأميركية تظهر وكأنها نفسها تماما، فائقة الجمال ورائقة وتعرف قيمة ذاتها. عوالم الرجال الخفية كانت أكثر صعوبة لاختراقها بالعدسة من بوح النساء السريع، كأنهم غير واثقين تماما مما يريدون. لكنه التقط صورا جميلة كثيرة لأصدقائه، صورة (بيكاسو/ 1933) تظهر تناغم نظراته الثاقبة من عينين سوداوين مع يديه الكبيرتين. لماتيس صورة أيضا عام 1925 تظهره محافظ الشكل في بدلته الصوفية ولحية مشذبة تتناقض مع نظرة العينين الرهيبة القلقة الباحثة عن كل شيء. (أنتونين أرتو) الصارم والوسيم الملامح وبشعره المبعثر يمنحنا نظرة من فوق كتفه تقول عنه كل شيء إلا الجنون، سلفادور دالي متأنق نحيف يغمر وجه ضوء شديد على خلفية داكنة وبأذنين نافرتين لسماع لا وعيه ربما، جان كوكتو ينظر من خلال إطار يحمله، كم تبدو هذه الصورة معاصرة! جيمس جويس يحني رأسه ويمسك جبهته كأنما يستخرج الكلمات منها. خوان ميرو والحبل الملتف في عدة اتجاهات كخلفية له للإشارة إلى خطوطه النحيلة الشحيحة في لوحاته، وهناك صور ثنائية كما صورة هنري ميلر جالسا غير مكترث وزوجته الأخيرة عارية واقفة خلفه كأنما تغوي ظهره وترسم على وجهها قناعا من خطوط للتمويه، أو صور جماعية كما في مجموعات السوريالين، وصور بها حس الفكاهة والبراءة. معظم موديلاته تنظر مباشرة للكاميرا أو تشيح النظر عنها قليلا لكنها واعية للعدسة. صور قليلة ملتقطة وكأنما الموديل لا يعي أن عدسة ما ستحنط لحظته كما في صورة (امرأة تدخن سيجارة)، فهو يتعامل مع رأس المرأة بمعزل عن جسدها، ويصور شعرها المتموج كأنه شاطئ بحر يتصاعد مع تلة الذقن وصولا إلى القمة الشفتين والسيجارة بينهما، أو كما في صورة (الوجه الطائر)، حيث الموديل مغمضة العين، لكنها مشعة بوجهها الضوئي وخلفه عتمة.

لا شك أن الكثيرين قد نسخوا وينسخون أسلوب مان راي في التصوير لأنه استطاع أن يذهل ويسعد جمهوره من خلال إطلاق أفكارهم خارج حدود البيئة المحيطة، إلا أنه أيضا فنان رومانسي حالم وحساس، وهذا ما قالته لوحاته الفوتوغرافية المتجددة دوما.