فالح الصغير.. الفتى الذي مر بالظهران

فالح الصغير
TT

بعد خمس سنوات من تجربته الروائية الأولى، يعود القاص والصحافي السعودي فالح الصغير بالجزء الثاني من ثلاثية «يمرون بالظهران»، عبر رواية «غميتة»، وهي رواية تتناول تشكل مدينة الظهران (شرق السعودية) والعلاقات التي نسجت بين المجتمعات المتعددة والمختلطة التي وفدت إليها في ثلاثينات القرن الماضي بعد اكتشاف النفط وقيام بنية صناعية جاذبة للعمالة المحلية والدولية.

الرواية قصيرة الحجم، لكنها تناقش تفاصيل وصول الأميركيين إلى الظهران وإنشاء شركة «أرامكو» النفطية العملاقة، التي ساهمت بشكل رئيس في رسم صورة الظهران الحديثة المتنوعة المنفتحة، ذات الحياة الميسرة.

فالح الصغير الذي ولد في الزلفي (وسط السعودية) سنة 1954، وعاش منذ طفولته في الظهران، مثلت له هذه المدينة التي رآها تتشكل أمامه من خليط من الجنسيات والثقافات والهويات، مصدر إلهام لكتابة ثلاثية تروي سيرة المدينة والناس الذين مروا عليها.

عنوان الثلاثية «يمرون بالظهران»، مستل من بيت شعر (مجهول النسب)، ويقال إنه للأعشى:

يمرون بالدهناء خفافا عبابهم

ويرجعن من «دارين» بجر الحقائب

و«دارين» هي ميناء تاريخي تابع للقطيف، كانت تزدهر فيه التجارة بين الجزيرة العربية والقارة الهندية.

يقول الصغير: «إن صورة الظهران، المدينة التي يقصدها العاملون ويرجعون منها بالرفاه والثروة، تمثلت أمامه منذ الصبا، لكن بيت الشعر ظل شاخصا أمامه كمصدر إلهام. كان والدي دائما ما يردد هذا البيت ويشرحه، وهو منسوب للأعشى، وكثيرا ما فكرت فيه ورأيته منطبقا على المدينة التي عشت فيها، وهو ما مثل لي نوعا من الاستلهام لشخصيات مرت بالظهران وأثرت من خلال عملها، أو شخصيات مرت وكان لها تأثير اجتماعي فيها».

علاقة فالح الصغير بالأدب والكتابة ليست جديدة، فهو يعمل في الصحافة منذ أكثر من ربع قرن، وكان مديرا لتحرير جريدة «اليوم»، قبل تقاعده منها واشتغاله بالعمل الصحافي الخاص. صدر له عدد من المجموعات القصصية مثل: «ديمقراطية الموت» 1992، و«المرفوض» 1996، و«عالم الجنون العربي» 1999. ثم بدأ في عام 2008 دخول عالم الرواية عبر رواية «يمرون بالظهران»، وأخيرا أصدر الجزء الثاني منها عبر رواية (غميتة). يتحدث الصغير عن تجربته في الانتقال من القصة إلى الرواية، بالقول: «كان هذا الانتقال يمثل هاجسا بالنسبة لي منذ شرعت في كتابة القصة، حيث كانت هناك الكثير من التفاصيل التي تصلح لرواية. لكن فكرة الكتابة عن مجتمع الظهران مثلت حافزا بالنسبة لي». يضيف: «كتابة هذه الراوية كانت فكرة تراودني منذ الطفولة، حيث عشت وترعرعت في الظهران».

وعلاقة الصغير بالأدب، كما بالصحافة، قوية لا تنفك. وخلال إقامة معرض الرياض الدولي للكتاب (مارس «آذار» الماضي)، لفت انتباه المثقفين وجود فالح الصغير «متلثما»، يغالب المشاكل الصحية التي يكابدها لكي يحضر من المنطقة الشرقية للرياض من أجل توقيع روايته «غميتة». كان قد أصيب قبل نحو عامين بورم خبيث اضطره للدخول في عزلة عن محيطه الثقافي من أجل العلاج، وهو يبدو اليوم بحالة أفضل.

في صباه، انتقل فالح الصغير مع والده إلى الظهران، حيث كانت تموج بالحركة والنشاط بعد قيام شركة «أرامكو» - كبرى شركات النفط العالمية. وكان آلاف العمال الأميركيين والأجانب والسعوديون يمثلون مجتمعا محليا متجاورا. ويصف فالح الصغير لـ«الشرق الأوسط» المشهد كما رآه: «في الظهران، كان هناك مجتمعان مختلفان: الأول هو الحي الذي يقطنه العمال الأميركيون وعائلاتهم وبعض المسؤولين العرب في الشركة النفطية، يقابله الحي السعودي (سعودي كامب). وكانت المسافة بين الحيين فاصلة بين نمطين مختلفين وثقافتين متوازيتين. كان الفاصل بين الحيين حاجز حديدي (شبك)، وكان الأطفال في الحي السعودي يقفون أمام الحاجز الشبكي يرقبون نظراءهم الأميركيين يرتدون أزهي الثياب ويأكلون «ساندويتشات الهامبرغر» والحلويات، التي كانت تمثل لهم ترفا رفيعا يحلمون الوصول إليه.. مثلما كان الأطفال يحلمون بالتقاط مكعبات الثلج، التي ما إن تستقر في أيدي أحدهم حتى يسارع لمشاهدة صورته فيها. فلم يكن الثلج معتادا وجوده بين أيديهم باستمرار..».

وقد مثل الجزء الأول من الثلاثية هذه التشابكات. لكن الجزء الثاني جاء أكثر تفصيلا، فقد نما جيل جديد من السعوديين المتعلمين المتحدرين من بيئات اجتماعية متعددة. والكثير منهم أتيح له السفر للغرب للدراسة واحتلوا مواقع مرموقة في الشركات الصناعية، وهو ما انعكس على النسيج الاجتماعي والثقافي للمدينة.

يقول الصغير: «من الخطأ النظر للظهران من زاوية كونها مجرد مدينة يسكنها العمال. فهذه المدينة أثرت - ولا تزال - على العالم بأسره، من خلال النفط الذي غير شكل الدولة وضخ الحياة والتنمية في مفاصلها».

يضيف: «أما التحولات التي حدثت في الظهران فشكلت هي الأخرى حافزا لتشكيل الشخصيات التي عاشت فيها، فالجميع كان يعيش في الظهران بروح الأسرة الواحدة من كل المناطق والمذاهب، يعملون ويتناقشون ويتكلمون عن كل قضايا العالم من دون حواجز.

يقول الصغير: «صحيح أن الظهران ضمت خليطا من الناس يعودون لمشارب وانتماءات مختلفة، ولكنها وهي المدينة العصرية، حافظت على (روح القرية)، حيث العلاقات بين أفرادها تتسم بالبساطة والكرم. وليست هناك مبالغة، القول إن الحي كان يمثل أسرة واحدة مترابطة، وبعض البيوت كانت لها أبواب متداخلة مع بعضها، وكان القادمون من أطراف المملكة يجدون من يستقبلهم ويسكنهم حتى يجدوا عملا».

في الرواية الأولى، يقول الصغير عن الظهران: «آه، آه، يا حبي المتجدد، قلبي يتعذب، صوتي يرتفع، إنني أعشقك يوم رأيتك وجها لوجه أمام الناس في الظهران، ضحكت، بكيت، صفقت في داخلي، تمنيت أن أرقص أمام الخلق، أركض، في شوارع المدن وبيوتها، ما زلت أركض، لا أنام، مبكرا مثلما تنام الظهران».. وهو يعترض على من يقول إن هذه المشاعر ليست سوى انبهار «قروي» بمدينة تعج بالأشكال.. وهي خالية من روح المكان، حيث الظهران مدينة ناشئة لا تاريخ ممتدا لها..

ويقول الصغير إنه لم يعش جزءا من حياته خارج الظهران حتى يتشكل وعيه مزدوجا. وهو لا يتفق في أن الظهران مسلوبة التاريخ، وخالية الوفاض من التراث الذي يعبق بروح المكان. يضيف: «هذه المدينة ممتدة لآلاف السنين، وهي جزء من حضارة المنطقة الشرقية، وثمة دراسات مسحية دلت من خلال الاكتشافات على امتداد تاريخي عميق لهذه المدينة».

وهي وردت في شعر القدماء مثل علي بن المقرب العيوني (المتوفى سنة 629هـ) الذي يقول:

والخط من صفواء حازوها فما

أبقوا بها شبرا إلى الظهران

وهو يرى أن الجزء الثاني من الرواية يمثل امتدادا للمرحلة الأولى بشخوصها وأحداثها والأدوار التي لعبتها هناك. أما الجزء الثالث القادم، فهناك أيضا شخصيات قدمت للظهران ولم تعمل في الحقل الصناعي، حيث عمل بعضها في الجانب العسكري، وهي أيضا شكلت إضافة لمجتمع الظهران وأعطته تنوعا مختلفا. كما أن المهندسين الشباب الذين ابتعثوا للدراسة في الغرب وبعضهم عاد إلى الظهران بنمط ثقافي مختلف، والبعض الآخر آثر الحياة في الغرب.. هؤلاء أيضا أعطوا للجزء الثالث المقبل شكلا مميزا.

الشاعر والروائي المعروف علي الدميني الذي قدم للرواية في جزئها الثاني، وجد أن مدينة الظهران «بكل حمولاتها الرمزية» تعيش في الذاكرة «كمحطة عبور للمستقبل»، والعنوان «كناية عن أننا كلنا نمر بالظهران، في طريقنا إلى المستقبل، ولكن المستقبل هو (دارين) الأحلام، التي نؤمل أن نحمل منها مفاتيح الذهب أو السعادة! لقد حمل كل منا ومن غيرنا حصته من هذه المفاتيح، حيث لم يبق باحث عن عمل أو حالم بغد أجمل، أو مثقف، أو مقاول، أو باحث عن ثروة أو.. إلا ومر من بوابتها، ولكننا اليوم أمام مهمة أخرى تستدعي الخروج من مغارات تاريخ الإنسان القديم الذي عاش في جبال الظهران».

يبدد فالح الصغير المخاوف من أن ثلاثيته «يمرون بالظهران» تحدث خلطا بين الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية. يقول: «في هذه الرواية، لم أكتب عن تاريخ، بل عن شخوص مرت أو أقامت في الظهران، والعمل بجزأيه ليس هو توثيق أو تاريخ، بل سيرة أفراد كان لهم مساهمات في إحداث تحول تاريخي واقتصادي في المدينة وفي البلاد بأسرها»، يضيف: «بعض الشخصيات هي من نسج الخيال وإن اقتربت من الواقع لكنها لا تمثله. والرواية ليست سيرة ذاتية كذلك».

أما النقاشات عن مرحلة الستينات الميلادية، والحرب العربية - الإسرائيلية، وتفاعل الساكنين في الظهران من عرب وأميركيين مع تلك الأحداث، وعبد الناصر، والثورة المصرية، وتأميم النفط وغيرها، فهي جزء من النقاش العام الذي كان مثارا في ذلك الوقت.