عبد الله بن إدريس.. شاعر صحراوي اقتحم عوالم المدن

جادل الملك حسين بشأن وجود العرب في فلسطين ورفض الوساطة لدى صدام

عبد الله بن إدريس
TT

في سيرة الأديب والشاعر السعودي عبد الله بن إدريس محطات لافتة، ورصد لأزمنة وأمكنة كثيرة في عالم حافل عاشه على مدى تسعة عقود، فهي تكشف عن جوانب مهمة تستحق التوقف والتأمل، لسيرة رجل اقتحم عالم الشعر والأدب والتأليف والوظيفة في سن مبكرة، مما جعله «ثروة وطنية» يجب المحافظة عليها، كما شدد على ذلك الملك عبد الله بن عبد العزيز أثناء تكريم الملك له بوسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى في مهرجان الجنادرية قبل ثلاث سنوات.

هذه المحطات المهمة أباح بها بن إدريس في سيرته الذاتية التي صدرت مؤخرا في كتاب حمل عنوان: «عبد الله بن إدريس قافية الحياة». وبدأه بالحديث عن مسقط رأسه بلدة «حرمة» في إقليم سدير (وسط السعودية)، حيث ولد بها قبل 87 عاما، ودراسته في كتاتيبها قبل إقرار المدارس النظامية، ثم سفره إلى الرياض وهو لم يتجاوز 12 عاما وسكنه مع والده في ضاحية ببان القريبة من الرياض، وذهابه بعد ذلك إلى عاصمة الدولة الحديثة طالبا العلم على يد العلماء والمشايخ، وسكنه في أحد أربطتها من خلال رباط مجاني للطلاب المغتربين يتخذ منزلا طينيا يطل على ميدان «دخنة» الذي اشتهر في الأوساط الشعبية بميدان العلماء، أسفله دكاكين وأعلاه غرف عددها 17 غرفة، تستوعب كل غرفة طالبين. ثم تعيينه بعد ذلك معلما في المدرسة الفيصلية، والتحاقه بالمعهد العلمي في الرياض الذي افتتح قبل 64 عاما، وأنشأ به علامة الجزيرة الراحل الشيخ حمد الجاسر ناديا أدبيا شهد نشاطات منبرية لافتة. يقول بن إدريس عن النادي: «كان أول ناد أدبي ينشأ في مؤسسة علمية قبل إنشاء الأندية الأدبية بسنوات كثيرة، وهو النادي الأدبي للمعهد العلمي والكليات، كانت للنشاطات المنبرية فيه من التأثير الذهني والفكري على عقول الشباب ما لا يقدر قدره إلا من عايش تلك الحقبة الرائعة. كنا شباب النادي في ذلك الوقت نتمتع بحرية في الكلام وجرأة عجيبة في تناول قضايا سياسية واجتماعية وثقافية، لا تخص الحياة في المملكة وحسب، بل تتناول قضايا الأمة العربية والإسلامية. ولم نستدع يوما للمباحث أو غيرها لمساءلتنا عما قلنا أو كتبنا من شعر ونثر، وقد استمر هذا النادي تحت رعاية الشيخ حمد الجاسر ورئاسته إلى أن زار الرياض في عهد الملك سعود (رحمه الله) جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند حينذاك، فكتب الجاسر افتتاحية صحيفته (اليمامة)، وذلك في عام 1954، بعنوان (مرحبا برسول السلام!)، وكان لهذا العنوان رد فعل عنيف من العلماء الذين اشتكوا حمد الجاسر إلى الملك سعود، لأنه جعل هذا الهندوسي رسول السلام، فتداعى الحدث وفصل الشيخ حمد الجاسر من عمله كمدير عام مساعد للمعاهد والكليات، وتبع ذلك تخليه عن الإشراف على النادي الأدبي في المعهد والكليتين، ومن ثم أسند الشيخ محمد بن إبراهيم الرئيس العام للمعاهد والكليات إلي مهمة الإشراف على النادي».

ثم عمل بن إدريس بوزارة المعارف مفتشا لعدة سنوات إلى أن تمت إعارة خدماته من الوزارة إلى مؤسسة «الدعوة» الصحافية التي صدرت عنها صحيفة «الدعوة» قبل خمسين عاما في عهد الملك فيصل، وكانت هذه بداية مشوار بن إدريس الصحافي، وبعد صدور عددين منها، خص الملك فيصل الصحيفة الجديدة بكلمة نشرت مصورة في الصفحة الأولى بعنوان: «جلالة الملك يحيي صحيفة (الدعوة)» ويقول: «إن (الدعوة) ترسم الطريق السوي القويم إلى ميادين الإصلاح». وخلال عمله بالصحيفة، سجل بن إدريس مواقف لافتة، منها: مجادلته للملك حسين بعدما ألقى العاهل الأردني الراحل كلمة في مؤتمر صحافي خصص للحديث عن رحلة خارجية له شملت أميركا وأوروبا لشرح وجهة النظر العربية بعد نكبة 1679. ومما قاله الملك في الكلمة: «نحن في فلسطين منذ 1300 سنة»، فاستأذن بن إدريس الملك لتصحيح عبارة إعلامية مغلوطة تتكرر على ألسنة السياسيين والإعلاميين، «وهي القول بأن العرب وجدوا في فلسطين منذ 1300 سنة، والصحيح أن العرب الكنعانيين، وهم ساميون، كانوا هم أهل فلسطين منذ قرابة خمسة آلاف سنة، أما القول بأن العرب وجدوا في فلسطين منذ 14 قرنا فهو وجود فقط لعرب الجزيرة العربية الذين جاؤوا يحملون رسالة الإسلام التي بعث بها سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جدك (ويقصد الملك حسين)»، فرد الملك قائلا: «شكرا على هذا التوضيح الجيد المفيد، وها هم الإعلاميون سمعوا ما قلته، وآمل أن يستفيدوا منه».

وعن قصة كتابه «شعراء نجد المعاصرون»، نقرأ أن مؤلفه رفض تولي الدولة طباعته خشية أن يمسه قلم الرقيب فيحذف أجزاء منه، وطبعه على حسابه رغم الإمكانات المحدودة في ذلك الوقت. ويرى بن إدريس أن الكتاب أتاح له التعرف على كبار الأدباء في مصر، إذ زار عباس محمود العقاد في منزله بالعباسية وحضر ندوته الأسبوعية وأهداه كتابه «شعراء نجد المعاصرون»، كما التقى أحمد حسن الزيات صاحب مجلة «الرسالة» وأهداه الكتاب ذاته. ونشرت مجلة «الأزهر» مقالا مطولا عن الكتاب في ثلاث صفحات، كما زار بن إدريس في ذلك الوقت كبير النقاد العرب الدكتور محمود مندور وأهداه نسخة من الكتاب، فأعجب به وتحدث عنه حديثا مطولا في إذاعة القاهرة، ونشرت حديثه مجلة «القافلة».

وحملت ذاكرة بن إدريس لقاء له مع الدكتور طه حسين، بعد أن رافق الشيخ حمد الجاسر في زيارة الأديب المصري الكبير في بيته، الواقع في شارع الهرم، حيث رحب بهما بلطف كبير. وأورد بن إدريس جزءا من حوار تم بينه وبين طه حسين حول الشعر الحر، إذ أصر عميد الأدب العربي على أنه لن يسميه شعرا، كما التقى بن إدريس شاعر النيل محمود حسن إسماعيل وأهداه نسخة من كتاب «شعراء نجد المعاصرون»، كما تراسل مع الشاعر الأديب صاحب كتاب الأعلام خير الدين الزركلي وأرسل إليه نسخة من الكتاب. ومن لقاءاته الأخرى، لقاؤه الدكتورة عائشة بنت عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، التي اعتنت بكتابه عناية خاصة وكتبت عنه مقالين في جريدة «الأهرام» المصرية، كما دعته إلى غداء في منزلها ومنزل زوجها أمين الخولي، وكذلك لقاؤه في القاهرة الشاعرة العراقية نازك الملائكة، التي شكرته على إهدائها كتاب «شعراء نجد المعاصرون» ولمحت إلى أنها كتبت عنه مقالا في إحدى الجرائد البغدادية اليومية. ووصل كتاب بن إدريس الأمين العام لجامعة الدول العربية في تلك الفترة عبد الخالق حسونة، الذي قرر بعد اطلاعه على الكتاب تكليف إدارة المعهد العربي، التابع للجامعة، شراء كمية منه وتدريسه مع الكتب المماثلة للطلاب العرب.

أدرك عبد الله بن إدريس الملك عبد العزيز وعايش حالة نشوء الدولة الوليدة بعد أن رسم الملك المؤسس الخطوة الأولى لدولة عصرية تأخذ حظها من التنمية المتدرجة. عن ذلك، يقول بن إدريس: «أدركت الملك عبد العزيز وأنا شاب، دون الثامنة عشرة من عمري، وقد شاءت الأقدار ذات مرة وكنت متجها لاستذكار دروسي في جامع الإمام تركي في الصفاة - أن أرى الملك عبد العزيز بهيئته المهيبة وهو جالس على كرسي بالعجلات، فارتعشت لما رأيته، فلما رمقني بعينيه عمدت إلى السلام عليه، فقال لي - يرحمه الله: من أنت؟ قلت: (أنا عبد الله بن عبد العزيز الدريس العنزي). قال: (ونعم). ثم أردف يسألني بعطفه الملحوظ: (وش تزين في ذا؟!)، قلت له: (أدرس علوم الشريعة على يد الشيخ محمد بن إبراهيم). فقال لي: (ما شاء الله.. بارك الله فيك)».

ورافق بن إدريس الملك فيصل في عدد من رحلاته بصفته رئيسا لتحرير صحيفة «الدعوة»، كما تزامل مع الملك فهد في وزارة المعارف التي كان وزيرها، وكان بن إدريس مديرا عاما للتفتيش فيها، ثم مديرا للتعليم الفني، ومديرا لتحرير مجلة «المعرفة» التي كان الملك فهد مشرفا عليها عندما كان وزيرا. يقول بن إدريس: «بعد انقطاعنا عن زمالة العمل، صرت التقي الملك فهد في المناسبات والولائم التكريمية التي تقام على شرف ضيوف الدولة أو في بعض المناسبات التي يتم فيها افتتاح المشاريع، وأكون ضمن المدعوين لهذه الاحتفالات، وكان الملك فهد رغم صرامته وجديته الظاهرة يحب المزاح والملاطفة.

وأباح بن إدريس عن ذكريات ومواقف مع الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي كرمه قبل ثلاث سنوات بوسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى كشخصية العام في مهرجان الجنادرية. يقول: «لقد أكرمني الملك كعادته بعاطر الثناء والتقدير، ففي مهرجان الجنادرية بعد إلقائي قصيدتي شرفت بعدها بالسلام على راعي الحفل الملك عبد الله وكان برفقتي ولدي إدريس، وقد غمرني الملك - يحفظه الله - بنبله ولطفه وكريم خلقه، عندما أسمعني من الكلام والإشادة ما رطب به فؤادي وجلل به روحي، بل إنه بينما كان يمسك بيدي قد أشار بيده الأخرى إلى ابني إدريس وكان يقول له: انتبهوا له (يقصدني) وحافظوا عليه فهذا ثروة وطنية. قال ولدي: أبشر يا طويل العمر».

ويتذكر بن إدريس موقفا لا ينساه مع رفيق الحريري، قائلا: «في السنوات الأولى من رئاستي النادي الأدبي في الرياض، ذهبت إليه (الحريري) بمكتبه في الرياض بعد ترتيب مسبق معه، فاستقبلني خارج باب مكتبه بروحه النبيلة، وأفضيت إليه بحاجة النادي إلى مبنى يؤويه ويريحه من التنقلات الاستئجارية، ووجود الخدمات لنشاطاته المختلفة، فكان جوابه باختصار: (لا مانع لدي من دعم النادي وإعانته في تحقيق ما أشرت إليه، ولكن بعد أن تأخذ الإذن لي من الأمير سلمان بن عبد العزيز وموافقته على هذا). قلت: (لماذا نسأل الأمير فهذا شأنك الخاص بك). قال: (نعم، ولكن ربما يقول إن الأثرياء السعوديين هم أولى من اللبنانيين في تحقيق هذا الغرض). خرجت من عنده وأنا بين اليأس والرجاء، وذهبت إلى مكتب الأمير سلمان وحكيت له ما دار بيني وبين الحريري ووجدت رأي الأمير سلمان مقاربا لرأي الحريري».

ويتذكر بن إدريس حفل تكريمه الذي أقامته الأسرة «الإدريسية» لأحد أبنائها بمناسبة تجاوزه نصف قرن من العمل الحكومي والأهلي، وهو لا يزال بكل تواضع واعتراف بالقلة والتقصير يعمل حتى الآن في خدمة العتبة الشعرية والحركة الثقافية والأدبية والإعلامية: «لقد كان تشريف الأمير سلمان بن عبد العزيز، ثم تتويجه إياه بكلمة رائعة ومؤثرة في حقي، والدعم المعنوي منه لشعري ونثري عبر عشرات السنين، كل ذلك بمثابة جائزة الدولة التقديرية، التي منحها لي تقديرا سلمان بن عبد العزيز.

ويعد بن إدريس أحد المشاركين في مهرجان المربد الذي يقام سنويا بالعراق، ويتذكر بن إدريس موقفا حدث له هناك، حيث طلب منه تقديم الشفاعة لدى الرئيس صدام حسين للعفو عن ابنه عدي، الذي أقدم في أحد الأعوام قبل ربع قرن على قتل أحد المرافقين له (أي لعدي) لخلاف نشب بينهما، وقد سجنه والده في سجن بائس، حسب قول وزير الثقافة آنذاك جاسم لطيف نصيف. يقول بن إدريس حول هذا الموقف: «طلب مني نصيف، بزعمه أني رئيس الوفد السعودي إلى مهرجان المربد، أن أكتب برقية للسيد الرئيس صدام حسين أطلب منه العفو عن ابنه عدي وإطلاق سراحه، وأن يعطوا البرقية إذا كتبتها إلى وكيل الوزارة آنذاك عبد الأمير معلا لإرسالها إلى السيد الرئيس. وما إن انتهت مكالمة الوزير لي حتى أتاني وكيل الوزارة المذكور وهو نائب المشرف العام على مهرجان المربد ليقول لي: هل أمر عليك بعد ساعة لأخذ البرقية؟ فقلت له: سبحان الله! وما دخلي في شؤونكم الخاصة؟!». ورفض بن إدريس تقديم مثل هذه الشفاعة.

كتب بن إدريس كثيرا عن المفكر السعودي عبد الله القصيمي الذي وجهت له سهام النقد والهجوم بعد صدور كتابه (هذي هي الأغلال). وخلال وجوده في بيروت وفي نفس العام الذي صدر فيه كتابه الضخم (العالم ليس عقلا)، اتصل الشيخ الراحل حمد الجاسر ببن إدريس في مسكنه ببيروت، وأبلغ زوجته أنه (الجاسر) وعبد المحسن المنقور الملحق الثقافي آنذاك وعبد الله القصيمي والدكتور قدري قلعجي الناشر سيزورنه في البيت، يقول عن ذلك: «رحبت بهم جميعا عندما أتوا، وجلسنا جلسة ثقافية ممتعة دون خوض في فكر القصيمي، وقد أهداني نسخة من كتابه الجديد (العالم ليس عقلا)، وطرزه بعبارات رنانة ما كنت مؤهلا لها في ذلك الحين على الأقل، وزارني بعد بمفرده وتناقشنا عن كتبه، وخصوصا كتابه (دفاعا عن إيماني)، وسألته: (ما إيمانك الذي تدافع عنه؟)، فرد أبو علي (القصيمي): (يا أخي، دع مثل هذا السؤال للعوام والمتخلفين، أما أنت وكل أديب ومفكر حر فقد تجاوزتم هذه المرحلة!!). قلت: (أرجو ألا تدغدغ عواطفنا بمثل هذه الأوصاف، أريد جوابا صريحا عن السؤال). وبعد تردد قليل، أطلقها صاعقة مصعقة: (إيماني هو أني لا أؤمن بالله؟!!). ثم قال: (أوه! يا عبد الله، أدخلتنا في جدل لا ينتهي)، عند الباب وأنا أودعه قال: (للحديث بقية). قلت: (بل هذا فراق بيني وبينك)، ثم لم التق عبد الله القصيمي بعدها أبدا».