لعنات القرن العشرين في روايتين أستراليتين

كاتبة مخضرمة وكاتب مغمور من أصل أبوريجيني تقاسما جائزة 2000 لأحسن عمل روائي أسترالي

TT

خالد الحلبي منذ أن منحت لأول مرة عام 1957، لم يتقاسم جائزة أفضل عمل روائي استرالي السنوية روائيان، سوى مرتين. كانت الأولى عام 1962 عندما فاز بها بالمناصفة كل من الروائية ثي آستلي عن روايتها «المكتشف الأنيق»، والروائي جورج تورنر عن روايته «الدولاب تحت السلم». أما الثانية فقد كانت العام الحالي، اذ تقاسمتها الكاتبة آستلي أيضا عن روايتها «الأرض الجافة»، مع كاتب مغمور يتحدر من أصول سكان أستراليا الأصليين «الأبوريجينيين» اسمه كيم سكوت عن روايته الأولى «وقت من القلب».

وكانت الكاتبة المخضرمة آستلي، التي يبلغ عمرها الآن 75 عاما، قد فازت أيضاً بجائزة عام 1972 عن روايتها «المساعد»، وجائزة عام 1965 عن روايتها «المواطن المتمهل». وقد أصدرت منذ روايتها الأولى «الفتاة والقرد» عام 1958، وحتى روايتها الفائزة الأخيرة ست عشرة رواية، شهدت جميعها اقبالاً جيداً من قبل القراء، لأسلوبها المتدفق والجميل والواضح، وكشفها الحاد للظواهر الاجتماعية والنفسية بروح ناقدة، تبدو حيادية وموضوعية في سياقها العام. وتعتبر آستلي من أفضل الروائيين الأستراليين الذين عبروا عن التحولات الاجتماعية المثيرة التي شهدتها استراليا منذ استيطان الانسان الأبيض، وخصوصاً في المناطق الريفية.

وقد حملت روايتها الفائزة الأخيرة Drylands اسم مدينة استرالية صغيرة، لم تتغير خلال السنوات الخمسين الأخيرة الا قليلاً، اذ كان عدد سكانها الـ 274 نسمة يتعرض الى انخفاض مستمر، ولم يعد مسلياً لمن تبقى فيها غير ارتياد البار، ومشاهدة التلفزيون، وقتل الوقت في برامج العاب الكومبيوتر، وتمضية الوقت في ممارسات غير هادفة.

واذ تصور هذه الرواية التي جاءت في 294 صفحة من القطع الوسط، تأثر المدينة بفيضانين تعرضت لهما، وذلك بالتوافق بين المناخ والافتقار الى روحية الخلق والابداع والتجدد، فانها تعري على صعيد آخر ما أسمته بغرائب ولعنات القرن العشرين المتفشية عبر ما تحمله الكثير من البرامج التلفزيونية، والبرامج الالكترونية عبر الشاشات المختلفة.

من شقتها التي تقع أعلى محلها لبيع الصحف والمجلات والكتب في المدينة، تنهمك جانيت ديكن ساردة أحداث الرواية، بكتابة رواية تطمح أن تكون موجهة الى آخر قارئ في العالم، مراقبة من موقعها حركة الناس، وما تفرزه صيرورة الحياة في المدينة من صراعات بين الجنسين، ومن تمايزات طبقية واجتماعية وعرقية، بما يفجر حالات العنف و يعمق مشاعر اليأس.

وتنساب عبر الرواية الكثير من الحكايات الفولكلورية، التي تبدو وكأنها ترتبط ارتباطاً قدرياً بسلوكيات أبطالها، كما تتجسد مواقف الحب والمرارة والندم والخيبة بدون تدخل خارجي.

وتؤكد هذه الرواية من جديد قدرة الروائية الفائقة على رسم شخصياتها، وتركها تتحرك في مداراتها الحرة، ليستشف القارئ بنفسه دلالات الأحداث وما تفرزه من معطيات.

أما الرواية الفائزة الثانية هذا العام «وقت من القلب»، فان كاتبها كيم سكوت يبدو وكأنه يعود الى أصول انجلو ـ سكسونية، ولكنه في الواقع من أصول أبوريجينية، وقد جاء وضعه الحالي نتيجة للممارسات التي جرت تحت شعارات تحسين النسل، التي أدت الى انتاج أبوريجينيين لا ينتمون الى مواصفاتهم السابقة، وذلك عبر الاختلاط بدماء بيضاء وتغيير دمائهم وسحنتهم من خلال نصف أو ربع طبقة اجتماعية وراثية، وفق برامج عنصرية مخططة ومدروسة. واذ يذكرنا هذا بـ «الجيل الأبوريجيني المسروق»، نجد ان كاتب الرواية اختار أن يختفي وراء اسم هارلي كمحور أساسي لها وكناقل لأحداثها. وهكذا نجده في الرواية وقد نشأ بعهدة جده الاسكوتلندي أيرن ولكن على الرغم من ان الجد وجد أمامه بشرة بيضاء وشعراً أملس، وحفيداً يبدو وكأنه نموذج ممتاز للرجل الأبيض، فإن هارلي نفسه قد وجد نفسه غارقاً في البحث عن أصله الأبوريجيني.

ولعله من الجميل، أن الرواية لم تفرط في الابداع على حساب قضية، أو بالعكس، اذ انها رغم حميمية موضوعها، بالنسبة الى الكاتب (أو الراوي) تميزت عبر صفحاتها الـ 500 من القطع المتوسط، بتكنيك مبهر، يدهش القارئ، ويجعله يحس أن أحداثاً كثيرة، تبدو وكأنها قد وقعت في وقت واحد.

لقد استعان بطل الرواية، وهو يبحث عن أصوله الأبوريجينية برسائل وذكريات وحكايات مسجلة، ولكنها لم تكن كافية لربطه بجذوره. كانت الأسرار الحقيقية لدى جده أيرن، الذي لم ولن يبوح بها. وقد حفلت صفحات هذه الرواية، بقصص كثيرة تغوص في الماضي عبر ذكرياتها، وكان بعضها قد استمع اليه (هارلي) من قبل أناس التقاهم صدفة، اذ انه قد التقى بكثير من الناس، وغاص في اعماق قبيلة (نايونغار) غرب استراليا، وهو يتطلع الى اكتشاف جذوره الحقيقية.

وخلال بحثه المستميت اللامجدي، كان هارلي كلما يمسك برأس خيط جديد، سرعان ما يفلت من يديه (الخيط والعصفور). وقد اكتشف علاقات نسب محيرة، وتجسدت أمامه صور كثيرة من صور التعامل مع الأبوريجينيين في أوائل القرن المنصرم، عبر ممارسات مختلفة لانهاء وجودهم، عبر التصفيات الجسدية واطعامهم الطحين المسموم وتهجيرهم وازاحتهم من مناطقهم.

ونتيجة لفشله في معرفة نسبه الحقيقي، ولاحساسه العميق بمأساته، يبدو وكأن الكاتب يقول: ربما تكون هنالك لدى الكثير من الاستراليين اصول أبوريجينية من دون أن يعرفوا..! وهذه الجائزة التي يعلن عنها في النصف الثاني من كل عام، بعد مراجعة شاملة للأعمال التي صدرت خلال العام الذي سبقه، قد ظهرت الى الوجود، تلبية لوصية الكاتبة الاسترالية ستيلا ماريا سارة مايلز فرانكلين، التي رحلت في سبتمبر (ايلول) عام 1954، وتركت ودائع واستثمارات كافية لاستمرار الجائزة باشراف شركة متخصصة. وتبلغ قيمة الجائزة في كل دورة ثمانية وعشرين ألف دولار استرالي.