مدن الشعراء المتخيلة

اللغة والتركيبات الذهنية في مجموعة «سراباد» لعبد الكريم كاصد

TT

ياسين النصير يبدو ان التعامل مع اليوتيبا، حلم يقظة الشعراء الحديثة، واحد من أساليب الحديث في الرؤية الشعرية للقصيدة الحديثة في مرحلة الحداثة الثانية، وهذه الطريقة التي لامستها قصيدة الحداثة الأولى، كمعطى خارجي أتى إليها من كتب التراث والتاريخ، وكجزء من نزعة قومية ترى في المدن القديمة التي حملت تراث أمة وتجربة متميزة، قدرة على منح القصيدة الحديثة مساحة للقول وللفعل الشعري: غرناطة ونيسابور والأندلس والقيروان وسبتة وبغداد والقاهرة وبيروت والشام وإلى جوارها استحضرت الشخصيات والمواقع والأحداث الكبيرة: صقر قريش، المتنبي، وعائشة، وفاطمة، والحلاج، وأبو العلاء، ومحمد بن علي، وصاحب الزنج ...إلخ. الأمر الذي مكن القصيدة في الستينات من دخول ميادين كانت قصيدة الحداثة الأولى تستحي الدخول إلى الأسطورة لموانع دينية وطقسية كما أشار السياب إلى ذلك مرة، فاتكأت على الموروث الغربي، واستعارت منه نوافذه العالمية: أفروديت، وفينوس، ودموزي، وإيكاروس، وإمبيقليدس، وسقراط.. إلخ. فوسع الشاعر من فاعلية الصورة الشعرية، ومكنها من أن تستوعب أحداثاً معاصرة بدافع من نزعة المشبه به، كي تمكن القصيدة من أن تفتح زمنها الداخلي على أفعال ماضية ترى فيها متشابها أيضاً.

«سراباد» قصيدة للشاعر عبد الكريم كاصد، التي جاءت في ديوان صدر عن دار «الكنوز الأدبية» ببيروت هي من النوع الذي لا يتكئ على مفردة قديمة، ولا على مكان أو مدينة أو اسم علم، كما لا تحاول اصطناع تجربة بلا أساس. من هنا يأتي اسمها منتحلاً شخصية شاعرها، ويأتي شاعرها كاتباً لصورها، وعندما تتداخل في القصيدة هذه المستويات، نجد الشعرية فيها ليست من تكوينات اللغة، ولا من تركيبات ذهنية أو حسية الشاعر، إنما هي جمع بين عدة مفردات لتكوين صورة فيها من الشعبية قدر كبير، ومن الكلام المركب قدر أكبر. عندما أقرأ:

كان الناس حولي والرواحل في الطريق إليك يحملنا الهواء قبابك التمعت وجندك من رخام يرقبون الأفق.

أشعر أن هذه الصورة صورة شعبية، وقد تبدو عادية جداً ومألوفة، لكنها تحمل في بنيتها تداخلاً بين اثنين: سراباد، والشاعر. تتحول سراباد إلى مدينة محصنة بالقباب والجند، والبعد والسراب، وهي بعد ذلك مبتغى الوصول إليها، ويتحول الشاعر إلى ناس ورواحل وسفر، وهم متجهون إليها. في حين أن القصيدة ليست ما قيل من كلمات، ولا ما هو الشاعر من صيغه الجمعية بل هي في موقع «الما بين»، أي في الموقع غير المحسوم بين: المدينة سراباد وبين قافلة الرحلة. هذه هي القصيدة التي لا تؤلفها الصورة السابقة، ولا إيقاع اللغة ولا وزن الكلمات، إنما تنمو في حسية القارئ والشاعر والمكان معاً.

فسراباد ليست مدينة ما، بل هي حلم كل المدن التراثية المنقذة: المتخيلة والواقعية. ولمجرد أن الشاعر نحت اسمها من «السراب» أو من كل مدينة تنتهي بـ«اباد» أو كما نقول في العامية «سار بيادة» أي مشى على قدميه المسافة غير المعلومة، أو حتى لو كان اسمها واقعاً ومدوناً فهي هنا «لا مكان» ليس لها ماض، ولا لها حاضر. كل ما لها، هو مفردتها، التي يأتي الشاعر بها إلينا من خلال ما تكونه من «صور» ومن «إيقاع» ومن «وزن» ومن «فكرة»:

سألنا عن سراباد البعيدة قيل من عامين جزناها وقيل لعلها البلد الذي يأتي وقيل لعلها جبل ومحض بحيرة مسحورة الأسماك قيل لعلها شجر تحجر قلعة من صخرة صماء تسكنها التماثيل الغريبة قيل لكنا نأينا عن سراباد البعيدة هل نعود؟

يستعير الشاعر هنا لمدينته اليوتيبية، الحلم وثقافة الحكاية الشعبية، تلك التي تستعير هي الأخرى الذاكرة الشعبية. ومنها حكاية «المدينة المتحجرة» في ألف ليلة وليلة، تلك الحكاية التي تقع ما بين الليلة السادسة والليلة التاسعة: حاكم تمارس عليه الرقية من قبل زوجته التي تحب عبداً أسود فتحول نصفه الأعلى بشراً ونصفه الأسفل حجراً، وتحول جزائر مملكته إلى بحيرات وناسها إلى أسماك ملونة، بيضاء، حمراء، زرقاء، خضراء. وهي بعد ذلك تغيب عن الأنظار، فلا تهتدي إليها قافلة أو طير، ولأنها مدينة متخيلة، يفترض الخيال لها ملكاً ووزيراً وصياداً وجارية وطاجناً وسمكاً يتكلم عندما تمسه النار، ومن ثم لا بد من حكاية أخرى كي تولد من رحم الحكاية القديمة. نحن إذن في نص مفتوح، هكذا تقول القصيدة.

قيل من...

قيل لنا...

قيل لعلها...

قيل لكنا...

أما الصورة الشعرية الجديدة التي تولدها مثل هذه الاستعارات، فتكمن في: «جزناها» و«البلد الذي لا يأتي» و«شجر تحجر» و«قلعة» و«التماثيل الغريبة» و«النأي». وكلها مفردات مكانية. الأمر الذي يدفعنا لتأكيد ما ذهبنا إليه في مقالات عدة من: هيمنة مفردة المكان على الحركة الثالثة في القصيدة الحديثة.

والشاعر والقصيدة معاً يصلان إلى منطقة التداخل، فلا الشاعر حسم رحلته ووجد ضالته كما كان يفعل شاعر الحداثة الأولى، ولا الشاعر أوحى بما يأتي كما كان يفعل شاعر الحركة الثانية للحداثة، إنما هنا في منطقة اللاحسم، في منطقة تفكيك الصورة وانزياحها الفكري قبل اللغوي:

ليت أنا ما نأينا عن سراباد القريبة ليت أنا ما قربنا من سراباد البعيدة ليت أنا لم...

إذن فسراباد كائنة فينا، كما كان قد فعل السهروردي في حكاية الطير، لا رحيل إلاّ في المكان الأول.

وإذ نأتي على قصائد الديوان الأخرى، نجدها تمتح من ثنايا المادة التي أكدتها سراباد. فقصيدة «رثاء المدن» التي تتحدث عن «عراق الفترة المظلمة»: منازل تهوي.. وأحجار.. وملاعب للوحوش تجول.. يطردها إلى الصحراء أعراب المدينة، ثم ثانية تزول، مدائن تهدى وأخرى تسترد يبيعها وال ويقطعها الولاة».

وما كتابته عن العراق في فتراته المظلمة ـ الفارسية والعثمانية ـ إلاّ استدعاء لما يحدث الآن، هذه البنية غير القارة واحدة من شواهد تحديث الرؤية إلى المدن والأماكن والشخصيات، مفردات لا تستقر على حال، حركتها لون من شعرية الصورة المتأرجحة الأزمان.

وفي قصيدة «مرثية ابن خلدون» يحدث الأمر نفسه، لا شخصية قارة وراء القصيدة، بل وراءها الشاعر وفكرة القصيدة، وما تقوله القصيدة من صور شعرية لا يستقر عند زمن ولا عند نموذج، فاستعارة «الختم» هي بمثابة المدونة الوثيقة التي تمر على كل الأزمنة والأمكنة. وبرغم وجود قراءة غير حيادية لأفكار ابن خلدون في تكوين المجتمعات من هجرة للقبائل واستقرار للعمران، يحاول الشاعر أن يرسم لنا فكرة «الهجرة» تلك التي تلازم روح سراباد، وروح العراق في محنه، أن يكتب قصيدة لا تتعامل مع حدث مدون، بل مع حدث مفترض قائم في قراءة خاصة له لتلك الأحداث. وهذه ميزة للقصيدة في حركتها الحداثوية الثالثة.

لا تختلف قصائد الديوان الطويلة في مسارها التحديثي عن قصائده القصيرة، فالشاعر وضع في اعتباره أن يؤسس ديواناً بمناخ واحد:

منذ عشرين عاماً لا تزال الحجارة موطوءة والخراف التي عبرت مرة لا تزال تمر سأحصي الطريق ساحة ثم جسرا عتيقاً، وبوابة وبيوتاً من الطين منسية.