محمد القشعمي.. راصد البدايات وموثق التحولات

كتب سيرا لمبدعين سعوديين وأصدر ثلاثين كتابا متنوعا

محمد القشعمي
TT

رحلة محمد بن عبد الرزاق القشعمي مع الأدب والكتابة لم تتجاوز الـ15 عاما، ومع ذلك فقد أثرى المكتبة العربية بمؤلفات لامست الثلاثين، مع مؤلفات أخرى شارك فيها وصلت إلى 28 مؤلفا، بالإضافة إلى كتب ترجم له فيها أو أشير إليه فيها تجاوزت الـ60 كتابا، كما أشرف على إصدار العشرات من الكتب وقدم لها، وكتب مقالات ودراسات في الصحف والمجلات تناولت موضوعات أدبية وثقافية وسيرا لشخصيات ورصدا للتحولات في بلاده، وتاريخ الصحافة، في ما يمكن تسميته بالرصد البيبليوغرافي الموثق.

وفي مؤلفاته التي ظهرت في بداية هذا العقد والعقد الماضي، تناول الباحث القشعمي كل شيء فكانت «بدايات» و«ترحال الطائر النبيل» و«سادن الأساطير»، وسير أخرى رصدت حياة ومسيرة مبدعين خرجوا من هذه الصحراء حيث لم يتوقع ظهور أحد.

لامس القشعمي المتاح والمحرم وألف فيهما، ورصد المتغيرات في بلاده على المستويين الاجتماعي والثقافي، وقدم أعمالا تناول فيها البدايات الصحافية في بلاده وروادها، كما قدم سيرا عن شخصيات أدبية وثقافية سعودية. وكان آخر أعماله في مجال التأليف تناوله لنشأة مؤسسات المجتمع المدني في بلاده من خلال كتابه «بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية»، الذي تتبع فيه البدايات الأولى لنشاط المؤسسات الأهلية التي بدأت مع بداية الدولة واستمرت إلى اليوم، والتقط فيه نماذج من تجربة طويلة بخصوص تنظيمات المجتمع المدني في السعودية وتجارب الانتخابات في البلاد انطلاقا من البدايات الأولى لانتخابات مجلس الشورى القديم ومرورا بالنقابات والروابط والمجالس البلدية والغرف التجارية والجمعيات، ومدى أهمية الانتخابات وإقامة النقابات والروابط بما يمكن تسميته بالحراك الاجتماعي قبل قرن، ليعود مجددا بدخول المرأة لأول مرة إلى مجالس الشورى وإدارات الأندية الأدبية.

القشعمي الذي أرعبه منظر السيارة وهو يشاهدها لأول مرة وهي تطوي أرض قريته «معقرة» وتصعد إلى كثيب رملي قريب من القرية فيهرب منها، ويحذر أحد أبناء عمه من الاقتراب من هذا القادم الضخم الغريب مناديا بأعلى صوته: «ابعد عنها لا تعضك»!.. تحول إلى مثقف وراصد مميز وكاتب سير، لدرجة أن كاتبا وشاعرا مثل محمد العلي قال في تعليقه على كتاب «بدايات» للقشعمي «هذا الإصدار ليس فقط، كما يقول هو (فصولا من السيرة الذاتية)، بل هو فصول من سيرة البلد الواقعية، هذا الكتاب الفريد لا شأن له بالبلاغة، ولا طلاء الوجه بالصور الشعرية، أو تقديم الواقع على طبق من أخيلة. لا أبدا.. إنه مسك الواقع من يديه ووضعه أمام القارئ عاريا. صور متلاحقة للحياة بنكهتها (الخام) يصبها أمامك صبا، وبتدفق كتدفق نار»، مضيفا بالقول «السؤال الذي كان يخترقني، عند قراءة الكتاب من أول سطر إلى آخر سطر.. هو السؤال التالي: كيف نجا هذا الإنسان (القشعمي) من المآسي؟.. كيف نجا من العقد؟! كيف لم يصبح عدوانيا وحاقدا، وناظرا إلى الحياة والأحياء بعينين من جمر وشرر؟! إنها نعمة كبرى أن تهوي المعاول على إنسان، ثم تبقى روحه شديدة الإضاءة».

ولد محمد عبد الرزاق القشعمي عام 1945 في قرية «معقرة» إحدى قرى منطقة الزلفي داخل نفود الثويرات، وكانت تسمى القرى المحاطة بالرمال العُقل، ومفردها عقلة، والتحق وهو في الخامسة من عمره بكُتّاب القرية، وحصل على شهادة الثانوية العامة من معهد الرياض العلمي قبل 53 عاما. ثم مارس العمل الحكومي موظفا في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (رعاية الشباب) وتنقل في عدة مدن سعودية مسؤولا عن مكاتب رعاية الشباب، وسكرتيرا للأسابيع الثقافية السعودية في عدة دول، ورأس القسم الأدبي بالشؤون الثقافية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب بالرياض قبل 33 عاما. وبعدها أصدر سلسلة «هذه بلادنا»، وكلف بعضوية الأمانة العامة لجائزة الدولة التقديرية للأدب، ومثل بلاده في مناسبات ثقافية، وتقاعد مبكرا من العمل، والتحق بمكتبة الملك فهد الوطنية مسؤولا عن الشؤون الثقافية فيها منذ 20 عاما، وتبنى مشروع تسجيل «التاريخ الشفهي للسعودية» بلقاءات كبار الأدباء ورجال العلم والتعليم والمال والسياسة، وسجل حتى الآن سيرة أكثر من 300 شخصية من مختلف أنحاء بلاده.

وفي معارض الكتب التي احتضنتها أمكنة الإشعاع الفكري في طول الوطن العربي وعرضه وفي صالونات مثقفيها كان القشعمي حاديا فيها وهاديا لروادها، وفي مخافر وأرفف الكتب قدمت بلاغات وشكاوى ضده بتهمة زحزحتها عن أماكنها وتصويرها دون إذن مسبق من محارمها وتوزيعها على طالبيها في ساحات البحث والتقصي. لاحق أبو يعرب رائحة الكتب واستظل بورقها وبحث عن عش ذلك الطائر الذي قطع 70 عاما وهو يلتقط حبات الملح في مدنها ثم يلفظها، ويواصل مسيرته بحثا عن ملح قريته قصيباء وسط نجد بعد أن رحل عنها والده قبل 62 عاما. بحث القشعمي آثار عبد الرحمن منيف حتى وجدها، ووضعها في قفص زجاجي ليطلع عليها كل من يتابع هذا الروائي الكبير الذي ترك «أرض السواد» كآخر محطة توقف فيها في رحلته مع التأليف الروائي.

عايش القشعمي مثل أبناء جيله فترة حبلى بالأحداث المتسارعة، التي شكلت ملامح الوعي لدى شباب الأمة، فمن ثورة اليمن إلى انفكاك الوحدة بين مصر وسوريا، إلى بداية مقاومة الاستعمار البريطاني مرورا باكتشاف الجاسوس الإسرائيلي في سوريا إيليا كوهين، إلى تهديد إسرائيل بتحويل نهر الأردن في وقت كان فيه جمال عبد الناصر يدعو إلى مؤتمر قمة عربي. وفي خضم هذه الأحداث كان عبد الله الطريقي أول وزير للنفط في السعودية وصاحب الدعوة الشهيرة «نفط العرب للعرب» يحمل سلاحا معه للقضاء على إسرائيل. كان الشاب القشعمي متحمسا لمشاهدة هذا السلاح الذي سمع به، فتوجه إلى جامعة الملك سعود حيث كان الطريقي يلقي محاضرته عن إمكانية القضاء على إسرائيل في مدة ستة أشهر فيما لو اتفق العرب على استعمال سلاح النفط وقطعه عن الدول المؤيدة لها، وبعد سنوات وفي مسقط رأس الوزير والباحث التقيا مرة أخرى، وتحول الحديث من النفط إلى القمح، وسجل القشعمي ضمن شهادته في الشيخ الطريقي إنذاره بقدوم سنوات عجاف وخطورة نفاد مخزون المياه بسبب كثرة استنزاف المياه في مشاريع القمح الكبيرة التي ستحول الأرض إلى أرض سبخة على المدى الطويل.

ولأبي يعرب قدرة على التقاط الأشياء الجميلة وتوظيفها لصالح شخصياته الذين رصدهم، فقد أنجز كتابا توثيقيا عن حياة «سليمان بن صالح الدخيل»، أول صحافي من منطقة نجد، تتبع من خلاله حياة الدخيل ابتداء من مسقط رأسه بريدة وحتى هجرته إلى العراق التي يقول عنها القشعمي «لعل من العوامل التي وفرت له أسباب التزود بالعلم والمعرفة وجود عمه جار الله الدخيل المقيم في بغداد، إضافة إلى الأجواء الفكرية المتوافرة، فكان أن برز الدخيل في ميدان الصحافة وأصدر جريدة في بغداد عام 1910 اختار لها اسم (الرياض) تيمنا بحاضرة نجد الرياض، كما أنه أول نجدي يؤسس دارا للنشر في بغداد ثم يصدر مجلة (الحياة) وجريدة أسبوعية سماها (جزيرة العرب)».

ولعل من الصعوبة أن نرصد كل ما كتبه أو ألفه الباحث محمد القشعمي الذي بقدر ما هده البحث والتعلق بالكتب والتواصل مع المثقفين محليين وعربا، فقد هده الترحال والسفر منذ أن عمل قبل نحو نصف قرن موظفا في قطاع الشباب في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، مرورا بإدارة مكاتب رعاية الشباب في كل من الأحساء وحائل والقصيم، ثم انتقاله للعمل في الإدارة العامة للشؤون الثقافية في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، إلى أن تقاعد قبل عشرين عاما مبكرا عن وظيفة مساعد مدير عام النشاط الثقافي في الرئاسة، ليتجه قبل سنوات إلى مكتبة الملك فهد الوطنية ويعمل فيها مديرا للشؤون الثقافية، وليكون قريبا من عشقه الأول والأخير الكتاب، حيث علق على باب مكتبه «خير مكان في الدنا سرج سابح.. وخير جليس في الزمان كتاب».