الابتعاث.. كظاهرة ثقافية

ميرزا الخويلدي

TT

ينتشر نحو 150 ألفا من الطلاب السعوديين المبتعثين ومعهم مرافقون في نحو 26 دولة حول العالم، ضمن مشروع طموح وواسع أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، للابتعاث الخارجي. وهو أهم روافد الاستثمار في العنصر البشري الذي ترعاه الدولة.

ويتركز القسم الأكبر من الطلاب المبتعثين في الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، وأستراليا، ويختلط هؤلاء الطلاب في بيئات تعليمية متطورة، كما يعيشون في مجتمعات تتيح لهم اكتساب المعرفة والخبرة والمهارات السلوكية. فأي أثر ثقافي يمكن أن تتركه حركة الابتعاث؟

تاريخيا كانت الهجرات، والتواصل أحد أهم عناصر التغيير الثقافي، ونقل العادات والتقاليد والسلوك، ثمة مسافة حضارية وثقافية بين عالمين لاحظها حتى شيوخ الفكر؛ كجمال الدين الأفغاني، وطه حسين، ورفاعة الطهطاوي وغيرهم، الذين فتنتهم مدينة كباريس. في حين كان الشبان العرب الذي يعبرون المحيط وصولا لأوروبا أو الولايات المتحدة يصابون بما بات يعرف «الصدمة الحضارية»، التي تركت ارتدادات عنيفة على وجدانهم وتفكيرهم ومنطقهم بل وحتى هويتهم. ذلك التأثير لم يكن في مجمله سلبيا، فقد اكتسب الشباب المقبلون من بيئات أقل نموا وأضعف تنظيما، معارف جديدة ومناهج تفكير مختلفة وقدرة على التقييم المنطقي وتشبعوا بروح النقد، إلى جانب - طبعا - ما يمكن اعتباره سلوكا متناقضا مع الشخصية التي نشأوا عليها.

اليوم لسنا على موعد أكيد مع الصدمة الحضارية تلك، لأن الفجوة الصناعية والتقنية ليست عميقة جدا بين دولنا والولايات المتحدة مثلا، لن يصاب شاب بالذهول لأنه ركب الطائرة، أو شاهد ناطحات السحاب، ولن يصعق بحجم التنظيم والنظافة ورعاية البيئة هناك، لأنه في الغالب جرّب السفر ومكنته وسائل التواصل من التعرف، وما لديه في بلاده ليس قليلا كذلك.

لكن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا وغيرها من الدول ليست مجرد ناطحات سحاب أو حدائق زاهية، بل هي منظومة سلوك تجبر القاطنين فيها على الانضواء فيما يسمى (السيستم / النظام). فتقليديا لا يسعك هناك إلا أن تفكر بطريقتهم، خاصة إذا كنت ضمن النسيج الاجتماعي والأكاديمي. لا يمكنك على سبيل المثال إلا أن تحترم القوانين، الذي يبدو صارما بمقدار ما هو منطقي، تبتعد عن ممارسة أي مخالفة من شأنها أن تجعلك منبوذا أو معرضا للعقاب. أمور تبدأ من احترام أنظمة السير، ومراعاة الأولوية، إلى نبذ السلوك العنصري، والعلاقة مع المرأة، وهو ما يتحول تدريجيا إلى ثقافة ماكنة في الذات. فلا يسعك هناك أن تصفع طفلا، أو تزدري زوجة، أو تمارس العقاب الجسدي أو النفسي تجاه الأضعف كالبنات أو الخادمات، ولا يمكنك كذلك أن تطلق العبارات النابية والعنصرية كما تشاء.

يتمتع النظام التعليمي في الولايات المتحدة وغيرها من دول الابتعاث بمميزات بينها قدرته على أن يُكسب أفراده قدرات بحثية تعتمد على الكفاءة والأهلية وتستخدم وسائل العمل الجماعي، وتعتمد على مناهج منطقية تقوم على الاستقراء والاستنباط والتحليل وليس فيها مكان للتلقين.. مع إيمان مطلق بحرية البحث العلمي، وهذه كلها تنعكس ثقافيا على سلوك الطلاب.

ميزة أخرى يوفرها المجتمع المنفتح القائم على التعدد الثقافي وهي احترام الاختلاف، والعمل على إدارته. وهي من السلوكيات الإيجابية التي تتسرب إلى الشخصية. فضلا عن قدرة المجتمع على بناء نظام قائم على الجدارة واحترام الكفاءة والقانون، وهو ما يمنع نشوء الفساد.

قبل أيام سمعت شكاوى من مبتعثين أن زملاءهم ما زالوا متشبثين بتقاليدهم القديمة. لم يتغير سوى القشر الخارجي الذي يحكمه القانون الاجتماعي، أما الجوهر فتسكنه العادات البالية. من يحملون هذه الشكوى يغفلون قوانين الطبيعة الحاكمة التي تفرض التغيير مهما كانت درجاته وفئاته. لذلك فإن الحديث ليس عن التغيير الثقافي الذي نأمل أن يكون كله باتجاه الخير، وإنما عن مداه وقدرة هؤلاء الطلاب مستقبلا أن ينقلوا تجاربهم وخبراتهم وطريقة تفكيرهم الإيجابية للمجتمع المحلي.. أن يضيفوا ماء متدفقا للجداول.