هل تعتذر أوروبا عن الإبادة والعبودية اللتين لا تنفصلان عن ثقافتها؟

تيري إيغلتون في كتابه الجديد: الثقافة معنية في عصر العولمة بالتطهير العرقي والمجاعة وليس بقوافي ميلتون

TT

* كلمة «ثقافة» واحدة من أعقد كلمتين او ثلاث في اللغة الانجليزية

* أساتذة المؤسسة الأكاديمية البريطانية يقفون على شاطئ المانش في إنتظار أي موضة نقدية يطلقها متفذلك فرنسي لاستيرادها ينبه ايغلتون القارئ الغربي إلى أن ثقافته، خاصة «الرفيعة» وما «بعد الحداثية» لا تقارن بالإيمان الإسلامي الراسخ تاريخيا كتاب «فكرة الثقافة» الذي وقعه الباحث البريطاني تيري ايغلتون واخرجته إلى النور دار «بلاكويل»، جاء اخيرا مناسبة لتجديد «الصداقة ـ العداوة» القديمة مع مؤلفه المعروف. صحيح ان صدور كتاب جديد لإيغلتون يعتبر حدثا يستحق قسطا سخيا من الاهتمام، غير ان الحدث مغلف ايضا بطابع نوستالجي، بالنسبة إلى أولئك الذين تربوا على يدي الاكاديمي حين كان في عز سطوته اواسط الثمانينات آنذاك، كانت هالة «النجومية» تحيط بالمنظر الادبي اليساري الوسيم الممشوق القامة الذي تجري في عروقه دماء ايرلندية وانجليزية.

لكن «سواد» عينيه، كما يقول بعض السوريين، لم يكن سبب هذا الاهتمام. ولعل المسؤول الرئيسي عن ذلك كان كتابه «نظرية الأدب: مدخل» الذي القته المشرفة في وجهي عندما قرعت بابها للمرة الاولى اواسط الثمانينات في الجامعة البريطانية التي جئتها لتحضير شهادات دراسات عليا في الترجمة والادب المقارن.

كان هذا «الاستقبال» مضنيا، والحق يقال. فالكتاب الذي صار لسنوات مرجعا اساسيا في الجامعات البريطانية قبل ان يحمله البعض الى بلداننا، كان صعبا للغاية على الطالب الغر الذي كنته. لم نكن بعد قد سمعنا بمصطلح نظرية الادب، وكل ما كان في جعبتنا من مخلفات كتب النقد الادبي العتيقة ومحاضراته في قسم اللغة الانجليزية في جامعة دمشق لا يزيد على افكار ومعلومات ربما تعود احداثها الى الاربعينات! كيف تمكن اذن الاحاطة بهذا الوصف النقدي الذي يتناول نظريات الادب الرئيسية بالتشريح بدءا بمدرسة «النقد الجديد» وانتهاء بـ «ما بعد الحداثة» و«ما بعد البنيوية»؟ السهر والجد اثمرا في المرة الاولى، ولكن قليلا. قلنا لا بد من الاعادة، تلك «المعلمة» الماهرة! في القراءة الثالثة لم يعد ايغلتون مستعصيا. صارت ألاعيبه البيانية، التي ستدفعه لاحقا الى خوض تجربة الشعر والمسرح وكتابة النصوص السينمائية، وحرصه على محاورة مصادر ثقافية شتى، اشد وضوحا. والادهى ان السخرية الانجليزية الغامضة بالفطرة، اسلمت نفسها اخيرا ولو على مضض. وعندما حاولنا دخول تلك «المتاهة» التي يسمونها جاك ديريدا سرعان ما عدنا نجر أذيال الخيبة الى ايغلتون. هكذا صار عدو الامس صديق اليوم وبقي حاضرا في حياتنا الاكاديمية رغم انه اقتحمها اولا بقسوة. وهو علمنا قاعدة «ذهبية» لو لم نأخذ غيرها من «نظرية الادب» لما شعرنا بالندم على تعب الايام الاولى كله. ففي الخاتمة يقول ما مفاده ان لا حاجة للمرء بالتقيد بمدرسة نقدية بل من حقه ان يوظف المجموعة المناسبة من النظريات معا لدراسة نص او تحليل فكرة.

تطور مصطلح الثقافة يتميز ايغلتون عن المشاهير الذين تصلح اسماؤهم للترديد على طريقة عرض العضلات الثقافية التي يصفها الانجليز بـ name-dropping، بانه يبقى حريصا على التواصل مع قارئه حتى حين تغويه لعبة الغموض. لذلك يجد المرء «استراحات» ساخرة في كتبه الاولى الصعبة مثل «النقد والآيديولوجيا» او تلك التي بدأ ينحو فيها نحوا فكريا اوسع كـ «الآيديولوجيا: مدخل» و«آيديولوجيا علم الجمال».

ولا يزال على عادته القديمة ساخرا وذكيا ومشاغبا. ففي فصل «الثقافة والطبيعة» مثلا يسلط الضوء، بسخرية مقذعة احيانا، على بعض «علل» الثقافة الاميركية وعلى هاجس الاميركيين بالجسد. وهؤلاء لا يعبرون عن ذلك فقط بالاهتمام المفرط بالغذاء والرشاقة والخوف المرضي من البدانة والتدخين (بعض محلات السوبرماركت لا تسمح للمدخن بالاقتراب منها اكثر من 25 ياردة)، بل حتى باستخفاف دور النشر من الدراسات الادبية التي لا تُضمن عنوانها كلمة الجسد او اخرى تتصل به! والادهى انهم لا يطمئنون للنوم ربما لانه يعني «استسلام الجسد لقوى لا يمكن التحكم فيها، وربما كان هذا احد الاسباب التي تجعل الاميركي عاجزا عن البقاء في سريره (...) وقد عقدت هيلاري كلينتون اخيرا اجتماعا مع مساعديها قبل بزوغ الفجر» (89).

ولعل الكتاب، في احد جوانبه على الاقل، هو ايضا عربون وفاء للبدايات. فمعالجته للثقافة على امتداد 131 صفحة لانها «ليست (شريط الكاسيت) الذي تضعه في آلة التسجيل في بوسنيا او بلفاست، بل هي ما تقتل من اجله» (38)، تبدأ عمليا من تعريف استاذه القديم رايموند وليامز للمصطلح في كتابه المرجعي «كلمات اساسية». كانت تلك محاولة استهلها المعلم الراحل بالقول «الثقافة هي واحدة من اعقد كلمتين او ثلاث في اللغة الانجليزية». وبعد حوالي ربع قرن ها هو تلميذه يخلص الى ان المصطلح عويص ومربك لأنه «واسع وضيق في آن واحد اكثر مما ينبغي مما يجعله غير مفيد جدا». هذه الملاحظة تترجم في الكتاب عمليا من خلال العبارات التي يتكئ عليها ايغلتون لوصف الثقافة او معاينة هذا الجانب او ذاك منها. وقد تزوغ عينا القارئ اثناء متابعة هذا الكم من العبارات التي تتقاطع وتتنافر حين تكون الثقافة: هوية، او مدنية، او انثروبولوجية، او استهلاكية، او رفيعة، او شعبية، او جمالية، او ليبرالية.. الخ.

مع ذلك تتمخض تحرياته للمعاني التي اكتسبها المصطلح منذ اواخر القرن الثامن عشر، وتوقفه عند محطات تبدأ بكوليردج وفيخته ولا تنتهي بـ «سبايز غيرلز» وادوارد سعيد مرورا بماثيو آرنولد وايجور سترافنسكي، عن مفاهيم ثلاثة اساسية تاريخيا لكلمة «الثقافة». الاول يدل الى الثقافة من حيث هي سلاح رومانسي فعال لانتقاد الرأسمالية ومعارضتها، والثاني يمثل استعمالاتها كوصف انثروبولوجي لنمط حياة برمته، فيما تعبر الثقافة في المفهوم الاخير عن الفنون بمجملها. هذا الفهم الاخير للكلمة هو الاحدث زمنيا. وهو الوعاء الذي تبلور فيه فهمنا الحالي ما بعد الحداثي والسياسي بامتياز للثقافة، على حد تعبير ايغلتون. الا ان الجذور السياسية للمصطلح ترقى في رأيه الى القرن الثامن عشر حين طالب الفيلسوف الالماني فيخته ومواطنه هيردر بفهم الماني ينطلق من خصوصيات البلاد كبديل عن فكرة الحضارة الفرنسية ذات المنشأ القومي. نحن اذن مدينون بفهمنا للمصطلح «للقومية والكولونيالية» والثقافة تبرز فكريا حين تصبح قوة ينبغي ان يحسب حسابها سياسيا» (26).

ثقافة الهوية العتيقة وانطلاقا من هذه الثوابت يشن ايغلتون هجمة جديدة على المؤسسة الاكاديمية البريطانية التي اتهمها سابقا بالركاكة المؤذية. وسخر من اساتذتها مرة بقوله انهم يقفون على شاطئ المانش بانتظار اي «موضة» نقدية يطلقها متفذلك فرنسي لاستيرادها. ويقول هنا ان دراسة الثقافة ليست هي ما يعني اولئك الاساتذة الجامعيين الذين يقضون حياتهم «في دراسة قوافي ميلتون» مثلا، فالحروب الثقافية المتأججة تجعل الفكرة همّاً سياسيا بالدرجة الاولى معنيا بـ «التطهير العرقي وليس بالقيمة النسبية لبعض مقاطع راسين او المسلسلات التلفزيوينة» (52). والحروب لا تقتصر على الصراع التقليدي بين الثقافتين، الرفيعة والشعبية التي استطاعت السينما ان تختزل الفجوة الواسعة بينهما حين قدمت افلاما تجمع بين الرقي والشعبية.

فالثقافة ميدان لمعارك الشمال والجنوب ايضا حيث تعبر «الليبرالية الاسلامية عن رفضها للتشدد الديني المسيحي الاميركي والاشتراكية الهندية عن معارضتها للعنصرية الاوروبية (فالواضح ان) الشمال لا يحتكر القيم المستنيرة، مهما شاء ان يظن في لحظات ثقته المفرطة بسموه الاخلاقي على الآخرين» (65). وبعدما ينبه القارئ الغربي الى ان ثقافاته، خصوصا «الرفيعة» و«ما بعد الحداثية»، لا تستحق ان تقارن بالايمان الاسلامي الراسخ تاريخيا الذي لا تتردد الملايين بالموت في سبيله.

وعلى رغم انتقاداته اللاذعة لما بعد الحداثة هنا، وفي امكنة اخرى اهمها كتابه «اوهام ما بعد الحداثية» يلاحظ انها تستحق شيئا من الثناء فهي «قد تمثل وسيلة مجدية للغرب ينفث بها هويته المتورمة للغاية» (81).

ومع انه يتفق مع حائز نوبل شيموس هيني في ان «العدالة والحرية والحب والجمال» متآخية يقوم احدها على الآخر لأن «الثقافة الفنية والادبية ذات حدود مشتركة تقريبا مع الثقافة الاخلاقية»، فهو يلوم الشاعر الايرلندي الشمالي لانه يتحدث عن «الثقافة الاوروبية وكأنها تراث يتمتع بالانسجام لا سلبية او تناقض فيه». ويضيف ايغلتون «اذا كانت اوروبا فعلا مهد كل هذه الحضارة فلربما كان لديها قدر كافٍ من اللياقة كي تعتذر عنها. فهي كانت بالطبع تاريخ عبودية وابادة وتطرف بذات القدر الذي كانت فيه نتاج غوته ودانتي وشاتوبريان، ولا يمكن فصل هذا الجانب المضمر المتجهم عن تلك الروعة الثقافية تماما» (68).

وينتقد الثقافة الغربية، خصوصا في انماطها المعاصرة ما بعد الحداثية التي توسع حدودها بانفلاش عجيب حين تبحث عن الفروق وحدها، او «ثقافة ـ الهوية» الضيقة التي تحصر حدودها بانتماء اثني او جنسي على طريقة الصواب السياسي التي ازدهرت بدءا من الستينات. لكن كما يتشبث بالثقافة الرفيعة شرط ان تتوفر للجميع ولا تبقى نخبوية اجتماعيا، يرفض المؤلف الافراط في الفردية او الجمعية لأن الذات لا تجد نفسها إلا ضمن نظام اجتماعي، و«الثقافة تمثل الصلة بين حضارة معينة والانسانية جمعاء» (54) من غير ان ينتقص من هذه او تلك. والعمل المستوحى من هذه العلاقة الجوهرية يجب ان ينال حقه من الاهتمام في رأي ايغلتون، لانه قد يساهم في تخليص العالم من شرور المخدرات والمجاعة ومآسي البيئة والفقر والحروب والديون، وغيرها من علل العولمة والنظام الرأسمالي على عتبة الالفية الثالثة.