يوم ولد العالم الحديث قبل مائة سنة

هل تنبأ عرض «طقوس الربيع» بتأثير الأسلحة الكيمياوية على المدنيين؟

عرض «طقوس الربيع الروسي» الذي قدم في باريس 1913
TT

إذا كان كل شهر يمكن أن يوصف باسم، فما الاسم الذي قد يكون مناسبا لوصف شهر مايو (أيار)؟ بالنسبة لهؤلاء المعنيين بالحداثة، ربما يكون هو: طقوس الربيع.

ومع ذلك، فإنه قبل مائة عام، أثار العرض الأول لباليه «طقوس الربيع» لايغور سترافينسكي عاصفة من الاحتجاجات بين مجموعة من محبي الموسيقى في باريس. كانوا قد احتشدوا في أوبرا غارنييه، متوقعين مشاهدة عرض باليه كلاسيكيا جديدا تقدمه فرقة «باليه روسيا» الشهيرة، التي يقودها دياغيليف، الأكثر شهرة. لم يكن الموزع سترافينسكي يحظى بشهرة كبيرة، ولم يتوقع كثيرون أن يكون آخر أعماله «متجاوزا لحدود اللياقة»، مثلما زعمت إحدى الصحف الفرنسية في اليوم التالي.

كان هذا عام 1913 وكانت أوروبا قابعة في وضعها المريح الشبيه بوضع النعامة الممثل في الجهل بعالم متغير على نحو خطير. وكان من المتوقع أن تكون الموسيقى رائعة وتحمل طابع موسيقى فاغنر أو خفيفة ومبهجة على نمط أعمال بيزيه وبرليوز. وفي مجال الرسم، كان من المفترض أن تكون الانطباعية قد أرست حدود الجرأة والمخاطرة. وكانت العمارة متحجرة في هيئتها الإغريقية الحديثة. بحث الشعر عن متنفس في سماء الرومانسية. أما عن الروايات، فكان البحث عن الموضوع الرئيسي الذي يغطي أجزاء ضخمة من التاريخ البشري مصدرا أساسيا للإلهام.

بعدها جاء عرض «طقوس الربيع» كحجر في بركة أوروبا البرجوازية الخانعة الراكدة.

يبدو كأن سترافينسكي قد قرر كسر كل القواعد والأعراف الموسيقية. وقد تخللت الموضوعات التقليدية المحورية نغمات فولكلورية مقتبسة من شواطئ إستونيا المتجمدة. وقد تم تفكيك أصوات ونغمات متعددة تقليدية، ثم أعيد تجميعها معا مرة أخرى كقطع من الرموز بما تحمله من إمكانات لا متناهية للبناء وإعادة البناء والهدم.

عززت الحركات الراقصة لفاسلاف نيجينسكاي الغوص الهازل، والجاد في الوقت نفسه، من جانب سترافينسكي، لما وراء عوالم الإمكانات الموسيقية. ربما يكون الجمهور الباريسي قد تحمل غياب عناصر حفلات الباليه التقليدية، التي حل محلها الملابس القبلية والفولكلورية. لكن كان لا بد أن يصاب بصدمة، أو يتظاهر بذلك، حينما ظهر راقصون عراة تماما في المشهد. اختلط الغضب بالحيرة عندما بدا أن الأجسام نفسها تجسد خطر التهديدات الخفية التي لا تعد ولا تحصى التي تواجه الإنسان. هل كان ذلك تلميحا للحرب العالمية التي كان من المفترض أن تبدأ خلال عام، مع أنه في هذا الوقت، لم يتوقعها أحد؟ وما الذي ترمز له تضحية الشخصية «المختارة» المفترض أنها عذراء بريئة فعليا؟

هل كان سترافينسكي يتنبأ بنهاية البراءة في أوروبا؟

اعتقد الجمهور الغاضب الذي غادر الأوبرا في باريس أنها كانت تجسد كراهيتهم لعمل تجاهل معظم القواعد الراسخة للإبداع الموسيقي. ما لم يعرفوه هو أن عرض «طقوس الربيع» في يوم 29 مايو جسد ميلاد الحداثة. ومن المفارقة أنه قبل بضعة أشهر من تقديم العرض، أعلنت الدوائر الثقافية الألمانية بفخر عن «موت الحداثة». وكان الغرب يتجه نحو حقبة ما بعد الحداثة، كما ذكروا.

ورغم ذلك، فإن عرض «طقوس الربيع» بما يحمله من روح لا مبالاة شاملة ويأس مفعم بالبهجة، كان بمثابة أكثر الأعمال المعبرة بشكل فعلي عن روح العصر. كان هذا عصر كسر القواعد بالبحث عن أخرى جديدة. لقد ألقت قصيدة «الأرض الخراب» لتي إس إليوت بحجر في بركة الشعر الإنجليزي الراكدة. وكان بابلو بيكاسو وجورج براك وآميدي أوزنفان يبحثون عن خطوط التكعيبية في الفن. وكان دوتشامب يكرس الاستفزاز وتهييج المشاعر في خدمة الإبداع الفني. كان لو كوربوزييه يستعد لتحطيم الثوابت في مجال المعمار. وكان أينشتاين يقوم بعمل أكثر خطورة عن طريق الإطاحة بثوابت راسخة في علم الفيزياء. وفي السينما، كان فريتز لانغ وإف دبليو مورناو يبحثان عن مصدر إلهام في أعمال سترافينسكي. وفي المسرح، أدانت الأنماط الجديدة التي ابتكرها ماكس راينهارت ولي ستراسبورغ الكثير من الفضل لمحاولة سترافينسكي الجريئة كسر قيود التقاليد. وفي الأدب، أقر جيمس جويس وفيرجينيا وولف وصمويل بيكيت بأن حلمهم قد تحقق بشكل جزئي في صورة عرض «طقوس الربيع».

وبعد مرور عام من العرض «الصادم»، كان قرع طبول الحرب هو العنصر المهيمن على الحياة بتداعياته المميتة. هل كان سترافينسكي قد تنبأ بذلك؟ هل قد رأى الخنادق حيث تكدست جثث الجنود القتلى فوق بعضها البعض مثل أجساد الراقصين في عرض «طقوس الربيع»؟ هل قد تنبأ بتأثير الأسلحة الكيماوية على المدنيين بنشر راقصات الباليه في عرضه على خشبة المسرح كبتلات زهرة مقطعة؟

ثمة أمر مؤكد الآن وهو أن تضحية العذراء جسدت براءة أوروبا وبراءة جنسنا البشري. كان العالم الحديث يولد، من لحم ودم، جميلا ومثيرا وتراجيديا.