الثقافة المصرية.. على المحك

تعاقب عليها ستة وزراء في عامين وتصارع النفق المعتم

د. علاء عبد العزيز
TT

تقف الثقافة المصرية حاليا في مفترق طرق حاد، يؤشر على أنها ستواجه صراعا طويلا وشائكا في السنوات القادمة، خاصة مع تولي قيادتها وزير غير معروف في الوسط الثقافي، هو الدكتور علاء عبد العزيز، الذي يعمل أستاذا للمونتاج بالمعهد العالي للسينما، وليس له إنتاج فكري يعتد به، وكان يكتب مقالات في صحيفة «الحرية والعدالة» لسان حال جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما جعل المثقفين المصريين يناصبونه العداء ويطالبون بتغييره، واعتبروا - في بيان وقع عليه الكثير منهم - أن تعيينه في هذا المنصب إهانة لهم، كما أعلنوا عن تكوين لجنة موسعة تضم كافة أطياف ورموز الثقافة لحماية الهوية المصرية. وفي مؤتمر موسع بنقابة الصحافيين المصرية يوم الخميس الماضي استهلوه بوقفة احتجاجية على سلالم النقابة رددوا فيها شعارات مناهضة لسياسة «الإخوان». دافع المثقفون عن ثقافتهم التي يرون أن مخطط «الإخوان» لابتلاع الدولة بدأ يتسرب إليها عبر تعيين الوزير الجديد.

حمل المؤتمر عنوان «دفاعا عن الهوية الوطنية»، وحضره عدد كبير من المبدعين والمفكرين والفنانين. وأكد جمال فهمي عضو مجلس نقابة الصحافيين في كلمته أمام المؤتمر أن «هناك هجمة على الثقافة المصرية، وأن المسألة ليست قضية أشخاص بقدر ما هي محاولة للسيطرة على العقل المصري، وليست الإتيان بوزير ثقافة لا يعرفه أحد، لكنه السياق الذي يتم من خلاله السيطرة على مفاصل الدولة المصرية، فـ(الإخوان) يريدون إلغاء الثقافة بشكل أساسي». بينما أشار الروائي بهاء طاهر إلى أن المثقفين منذ عشرات السنين ينتظرون التوحد في كيان واحد، وهذا اليوم هو البداية الحقيقية، فوزير الثقافة الجديد ليس هو المشكلة، إنما الذي صنع المشكلة هم من عينوه، ليجيئوا به في مكان جلس فيه عمالقة الثقافة أمثال ثروت عكاشة.

وأضاف طاهر: «معركتنا ليست مع هذا الوزير المجهول إنما مع جماعة (الإخوان)، لأن ما يحدث الآن في مصر أمر غير مسبوق في تاريخها الطويل، حيث يأتي شخص من غياهب المجهول ليصبح مسؤولا عن قوة مصر الناعمة، بما فيها من مسرح وأوبرا ونشر».

وقرأ الكاتب المسرحي أبو العلا السلاموني بيانا للجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة، جاء فيه: «إن اختيار وزير الثقافة على هذا النحو يفتقر للمعايير الإبداعية والفنية، كذلك أن بداية عهد الوزارة بإقالة أحد المثقفين من منصبه وخروج بعض التصريحات التي تأخذ من أهمية الثقافة، تعد بداية لتخلي الوزارة عن دورها الحضاري، وبناء على ذلك فإن لجنة المسرح ترفض دعوة هذا الوزير لحضور مؤتمر المسرح المصري القادم، على أن يقام المؤتمر تحت رعاية المثقفين المصريين، وتقام احتفالياته وفعالياته في المجلس الأعلى للثقافة، لأن هذه المؤسسات ملك للشعب».

وأصدر المؤتمر بيانا وقع عليه حشد من المثقفين والشعراء والفنانين أكدوا فيه أن «موقع وزير ثقافة مصر، بعد الثورة، لا بد من أن يمثِّل المثقفين المصريين فيه قامة ثقافية رفيعة تسهم في إعادة الاعتبار لقوة مصر الناعمة الأساسية، وتحمي الثقافة المصرية من غزو قيم التعصب والعنصرية التي تسعى لتدمير الهوية الثقافية الوطنية المصرية الرائدة، ومصادرة كل أنواع الحريات الإبداعية والفكرية والسياسية والشخصية».

مخاوف المثقفين وتحفظاتهم على الوزير الجديد لم تأت من فراغ، فقد بدأ الوزير معاركه معهم مبكرا، ضد ما سماه «محاربة الفساد وتطهير الوزارة منه»، مؤكدا في تصريحات صحافية أنه لا يسعى للانتقام وتصفية حسابات شخصية مع أحد، بل كل ما يهمه الصالح العام ودفع العمل الثقافي نحو الأفضل.

لكن مسعى الوزير ومع أول قرار اتخذه بتغيير مسمى «مكتبة الأسرة» التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب إلى «مكتبة ثورة 25 يناير» سرعان ما فتح النار عليه من جبهة المثقفين، ثم تفاقم الأمر بعد إقالة الوزير للدكتور أحمد مجاهد وإنهاء ندبه لرئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي أكبر ماكينة طباعة رسمية، وتمثل عصبا أساسيا في نشر الإبداع المصري في شتى مناحي الفكر والعلم والأدب والفن.

خسر الوزير جولة مكتبة الأسرة، وتراجع عن تغيير اسمها، بعدما اجتمعت اللجنة العليا المسؤولة عن السلاسل التي تصدر عنها، وأصدرت بيانا قويا، انتقدت فيه قرار الوزير واعتبرته تعسفا في استخدام السلطة، وعدم دراية كافية بأبعاد الثقافة المصرية، علما بأن المسمى هو من اختيار الكاتب الراحل «توفيق الحكيم».

ندد أيضا الكثير من المثقفين بإقالة الدكتور أحمد مجاهد من رئاسة هيئة الكتاب، واعتبروها مهينة، خاصة أن الوزير لم يقدم المبررات الكافية لذلك، كما أن رصيد مجاهد خلال نحو عامين من العمل بالهيئة أضاف لها الكثير، وجعلها مفتوحة بقوة على الواقع الثقافي، ليس فقط عن طريق النشر، بل بإقامة الندوات الفكرية التي تلقي الضوء على الشأن الثقافي في تقاطعاته المتنوعة مع المقومات الأساسية التي تحكم المجتمع.. وكان من أبرز الاحتجاجات القوية على استقالة مجاهد، تقديم الكاتب الصحافي الشاعر أسامة عفيفي استقالته من رئاسة تحرير مجلة «المجلة»، وهو ما يعني افتقاد الثقافة المصرية لنافذة ثقافية جادة، حيث استطاعت «المجلة» خلال عمرها الذي لم يتجاوز العامين أن تشيع جوا من الحيوية والحوار في الخطاب الثقافي المصري وأن تربطه بروافده عربيا وأجنبيا.

وحول استقالته من المجلة يقول أسامة عفيفي لـ«الشرق الأوسط»: «استقلت احتجاجا على تعيين الوزير الذي أتوا به من خارج الجماعة الثقافية دون أن يكون له أي إنتاج إبداعي لافت، بالإضافة إلى وصفه للمعارضة وجبهة الإنقاذ بأنهم الثورة المضادة في مقال له بجريدة (الحرية والعدالة)، ولأنه يتبع نفس منهج حكومة رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل التي تسعي للتمكين والإقصاء لصالح جماعة الإخوان وهو ما حدث فعلا بإقالته الهمجية للدكتور أحمد مجاهد رئيس هيئة الكتاب الناجح». وأضاف: «جاءت استقالتي تضامنا معه ورفضا لسياسات الوزير الإقصائية التي تهدف إلى هدم البنية المؤسسية لوزارة الثقافة المصرية. ولقد حدث ما توقعناه فلم يكن مجاهد هو الوحيد الذي تم إقصاؤه بل أقال صلاح المليجي رئيس قطاع الفنون، وإيناس عبد الدايم رئيس دار الأوبرا، والبقية تأتي قريبا»، لافتا إلى أنه «مخطط الاستحواذ والتمكين الذي يتم وبسرعة شديدة» على حد قوله.

لكن الخسارة المدوية للوزير جاءت بعد قرار الحركة التشكيلية افتتاح المعرض القومي العام للفنون التشكيلية، في دورته الخامسة والثلاثين، بقصر الفنون بالأوبرا، متحدية بذلك قرار الوزير بتأجيل افتتاحه إلى أجل غير مسمى، لحين التحقيق في شكوى مقدمة من خمسة فنانين اعترضوا على قرارات اللجنة العليا المنظمة للمعرض بعدم مشاركة أعمالهم بالمعرض لأسباب فنية.

وهو ما اعتبره محمد الطراوي، قومسيور المعرض انتصارا للحركة التشكيلية، لافتا إلى أن الفنانين التشكيليين المشاركين في المعرض أصروا على افتتاح المعرض وفقا لقرارات اللجنة العليا المنظمة وعدم تنفيذ شروط أو إملاءات وزير الثقافة، بمنع عرض 30 عملا فنيا قيل إنها مخالفة للوائح والقوانين.

ومن جانبها أصدرت اللجنة العليا للمعرض بيانا، نددت فيه بقرار الوزير واعتبرته يمثل عقابا تعسفيا جماعيا للحركة التشكيلية وجموع الفنانين العارضين واللجنة نفسها. وقال البيان إن «تدخل وزير الثقافة في قرارات اللجان التي يتم تكليفها بتنظيم فعالية، وأيضا اتخاذه قرارا بتأجيل أي فعالية يعتبر تشكيكا في قدرة اللجنة وتدخلا في مهامها وهو ما لا تنص عليه لوائح وشروط الاشتراك في المعرض القومي، وتفقد أي فعالية لمصداقيتها». كما أكدت اللجنة أن قرار وزير الثقافة تأجيل افتتاح المعرض «يعتبر إهدارا للمال العام حيث تم طباعة المادة العلمية والدعوات والبوسترات الخاصة بالمعرض العام محددا بها تاريخ الافتتاح». وكذلك، تضامنت لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى للثقافة، وهدد أعضاؤها بتقديم استقالة جماعية لو تم تأجيل المعرض العام.

لكن وزير الثقافة، الذي يعد الوزير السادس خلال عامين، لا يريد أن يمر غبار معاركه وقراراته المنفردة بسلام، دون أن يدخل في حوار جاد مع المثقفين، فسرعان ما اتخذ من شماعة افتتاح المعرض العام وعدم الانصياع لقراره بتأجيله، مبررا لإقالة الفنان الدكتور صلاح المليجي وإنهاء ندبه لرئاسة قطاع الفنون التشكيلية التابع للوزارة، فقد انحاز المليجي لقرار الفنانين وقام بافتتاح المعرض. ثم أعقبه بقرار إقالة الدكتورة إيناس عبد الدايم، عازفة الفلوت الشهيرة، وإنهاء انتدابها كرئيس لدار الأوبرا المصرية.

وتعقب عبد الدايم قائلة إن «المفارقة في هذا الأمر فاضحة ومخجلة، خاصة بعدما أكد الوزير لدوائر الإعلام المسموعة والمرئية عدم سعيه لإنهاء انتدابي، لكن الأكذوبة انكشفت ومن الواضح أنه ينفذ خطة معينة بكل بسرعة لتصفية حسابات خاصة». وكلف الوزير الدكتور رضا الوكيل وهو أستاذ في أكاديمية الفنون التي كان يعمل بها الوزير بتولي المنصب.

ويعلق د. صلاح المليجي على إقالته قائلا إن «طريقة العمل مع الوزير الجديد لم تعد واضحة المعالم، ولا يعرف كيف تسير»، لافتا إلى أن قرار إقالته كان متوقعا وقد علم به وهو في طريقه لافتتاح المعرض القومي العام وفق شروط اللجنة العليا المنظمة التي رفضت الانصياع لقرارات الوزير، وهي لجنة مكونة من قامات فنية كبيرة.

وصرح وزير الثقافة في بيان للوزارة بأن التغييرات الجارية حاليا في مختلف قطاعات الوزارة هدفها الأول ضخ دماء ورؤى جديدة لإحداث حراك ثقافي يعبر عن ثورة 25 يناير، مضيفا أن هناك هدفا آخر من هذه التغييرات هو سرعة تفعيل كافة قطاعات الثقافة المصرية وعملها بأقصى إمكانياتها.

لكن، يبقى السؤال: هل ينجح المثقفون المصريون، خاصة في ظل واقع مضطرب سياسيا وفي ظل حكم يكرس للأحادية المطلقة، في الذود عن ثقافتهم وإبداعهم المتنوع الخصب، ضد هجمة شرسة، تسعى - كما يقولون - لهدم البنية الثقافية بكل تراكماتها وميراثها الحضاري؟ وما الذي سيقرب مسافة ابتعدت بينهم وبين وزير طالبوا بإقالته قبل أن يتولى حقيبة الوزارة، أم ستبقى الثقافة المصرية تصارع النفق المعتم على مرأى من الجميع؟