يعقوب الشدراوي أودعنا وصاياه الخمس.. ورحل

صفحة مشرقة تطوى من صفحات المسرح العربي

يعقوب الشدراوي
TT

كثيرون في لبنان والبلدان العربية لا يعرفون يعقوب الشدراوي، ربما، فالمسرح ليس أولوية الساعة بطبيعة الحال، والرجل غائب عن الخشبة بفعل المرض وبسبب توعك المسرح. وفاته يوم الأحد الماضي عن 79 عاما أيقظت ضمائر تلامذته ومريديه. تنبهوا فجأة إلى أن المعلم كان موجودا بينهم، وأن دوره لم يكن قليلا، وتأثيره عليهم لم يكن يسيرا. سال حبرهم في رثاء رائد المسرح اللبناني الحديث الذي إلى جانب أنطوان ولطيفة ملتقى ومنير أبو دبس وجلال خوري وآخرين، شكلوا شعلة المسرح في بيروت في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

مع رحيل المخرج والممثل والكاتب يعقوب الشدراوي طويت صفحة مشرقة من صفحات المسرح اللبناني والعربي، الرجل من رعيل جرب وغامر وراهن على الفن كوسيلة للتغيير المجتمعي المبتغى. لا يمكن فصل يعقوب الشدراوي عن زمنه السياسي، بفكره اليساري الانفتاحي المتسامح، وحسه التجريبي وجده الأكاديمي.

حين يقرأ المرء ما يقوله الشدراوي، عن بداياته المسرحية في مدرسته في زغرتا يوم كان تلميذا صغيرا، ومن ثم سكنه بقرب كنيسة مار مارون في طرابلس، التي كانت تضم مسرحا، وانعكاس كل ذلك على نفس الشاب، ونجاح مسرحيته الأولى التي باعت تذاكرها في طرابلس، وعرضه لمسرحيات في القرى، يدرك المرء أجواء تلك المرحلة التي ملأت روح الشدراوي بالأمل. سفره إلى موسكو، تتلمذه على مدرسة ستانسلافسكي، حصوله على الماجستير، وعودته إلى لبنان ومن ثم حصوله على الدكتوراه عن أطروحة حول «التراث في مسائل الإخراج المعاصر»، جعلت من الشدراوي أصيلا ومتجددا وباحثا نهما في آن. شغله التأمل والتعلم من اليومي والشعبي، لعلمه أن المسرح ينهل من الحياة، قبل أي شيء آخر.

لعل الشدراوي أحد أكثر المخرجين اللبنانيين الذين جذبتهم النصوص الأدبية وأغرتهم. اقتبس وأعاد كتابة ما اختاره، قالبا إياه رأسا على عقب، لعلمه أن النص يولد ميتا ولا ينتعش إلا على الخشبة. مسرحيته الأولى بعد عودته من روسيا «أعرب ما يلي» التي عرضت عام 1970 لم تمر مرور الكرام، فقد ولفها من خمسة نصوص هي: قصيدة «العاصفة» لأنسي الحاج، و«الورد والقاموس» لمحمود درويش، و«حزمة القصب» لأدونيس، وأخذ من مسرحية «حكاية فاسكو» لجورج شحاده، كما أخذ من مسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران».

بقي الأدباء، من لبنانيين وعرب، قبلة يعقوب الشدراوي خلاله بحثه عن نصوص لمسرحياته، وفي كتاباتهم ضالته، فمسرحية «المهرج» للماغوط التي أخرجها عام 1971 تجاوز عدد عروضها الـ200 عرض، واقتبس عن يوسف إدريس، وميخائيل نعيمة، ومارون عبود، والطيب صالح. كتب للمسرح هو الذي كان يشكو قلة النصوص وصعوبة العثور عليها، فكانت له «نزهة ريفية غير مرخص بها»، و«بلا لعب يا ولاد» تأليفا وإخراجا، و«العتب ع البصر»، إضافة إلى «جبران والقاعدة».

كان الشدراوي يعي أن المسرح فن مستجد في العالم العربي، وأن جهدا كبيرا يفترض أن يبذل لتقريبه من ذائقة الناس، وتبدو اليوم الكلمة التي ألقاها عام 2007 بمناسبة إعلان تأسيس الهيئة العربية للمسرح في القاهرة بمثابة وصية المعلم لورثته من المسرحيين. كلمة مؤثرة، مقطرة، تختزل كل تجربته في سطور، وتظهر جل ما يراه مفيدا لمستقبل الفنون في العالم العربي. اعتبر الشدراوي أنه لا يمكن الكلام عن «مدماك عربي كامل في عمارة المسرح العالمي شبيه بتلك المداميك التي أضافتها بعض الشعوب والحضارات الأخرى»، لكن «هناك بداية جيدة وحجارة رصفت. وإن لم تكتمل بفعل عوامل تسأل عنها الأزمة العربية العامة».

ولإكمال المسيرة المسرحية ترك لنا الشدراوي ما يمكن أن نسميه الوصايا الخمس، أولها «العمل على بناء الطبقة الوسطى» التي هي «عماد كل حراك اجتماعي نهضوي». ومن ثم بالدرجة الثانية «العمل على استيلاد جمهور من رحم هذه الطبقة لديه قابلية استقبال للأعمال الإبداعية»، وذلك من خلال خطوة ثالثة هي «إصلاح النظام التعليمي، وإنشاء محطة تلفزيونية متخصصة بالفنون، وإنشاء المسارح البلدية، وتعميم ثقافة المسرح على المدارس والجامعات». أما رابعا فقد أوصى بـ«إنشاء معاهد مسرحية حديثة واستقطاب كبار الأساتذة لها». وخامسا «تشجيع ورعاية المبدعين من كتاب ومخرجين وفرق فنية».

من غير المسموح أن لا تعرف الشعوب روادها، وأن يجهل الإنسان العادي من صنعوا مجد فنونه ووضعوا لبناتها. ولعل في وصايا الشدراوي لو هي طبقت ما يخرجنا ولو جزئيا من هذه المأساة.