خيانة المثقفين

ميرزا الخويلدي

TT

قبل أكثر من ثمانين عاما، أطلق المفكر والروائي الفرنسي جوليان بندا، صرخته في وجه المثقفين الذين تستهويهم مغريات السلطة والجماهير فتقودهم للانحياز لمصالحهم السياسية والنفعية على حساب دورهم ومسؤولياتهم الأخلاقية. جاء كتاب بندا صادما من عنوانه الذي حمل اسم «خيانة المثقفين» الصادر عام 1927. منذ ذلك الوقت صار مصطلح «خيانة المثقفين» يرمز للإشارة إلى تخلي المثقفين عن استقامتهم الفكرية.

لم يكن كتاب بندا هو الوحيد، فبعده بأعوام جاء الكاتب الأميركي راسل جاكوبي، ليناقش في كتابه «آخر المثقفين» الصادر عام 1978 تراجع دور المثقف في الحياة العامة، وتخلف تأثيره في المجتمع. كما أن الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد، تحدث في كتابه «صور المثقف» (صدرت طبعته الإنجليزية سنة 1994، وطبعته العربية سنة 1996) عن الصورة الأخلاقية المفترضة للمثقف. وألف الكاتب البريطاني فرانك فوريدي أستاذ علم الاجتماع في جامعة كينت كتابا آخر باسم «أين ذهب كل المثقفين؟» (2004).

كل هؤلاء المفكرين وجهوا التوبيخ تلو الآخر للمثقف، الذي يتخلى عن رسالة أخلاقية افترضوا مسبقا أنه منذور لأجلها، وعن ممارسة أهم مسؤولياته في النقد، وهي الوظيفة الرئيسة للمثقف، والتحلي بالشجاعة والمسؤولية، خاصة في ظل الاحتراب الفكري الذي يجعل الأمور ملتبسة، ويصبح «الرأي فوق شجاعة الشجعان»، كما يقول المتنبي.

لقد ورد في الأثر: «إذا فسد العالِم فسد العالَم»، وحين تصبح النخبة المثقفة منساقة خلف أهوائها وتحزباتها الفكرية والطائفية، فإنها تفقد رسالتها الأخلاقية، بل إنها تتحول إلى عامل هدّام ومدمر للدور الأخلاقي الذي تقوم به الثقافة وينهض به الفكر.

من يصدق مثقفا أو كاتبا يسوغ ويبرر قتل الآمنين، وتعريض سلامتهم للخطر، لمجرد أن زعيما طائفيا أجازه أو فعله؟ وماذا بقي من مثقف حر أخذته العزة بالإثم فراح يتغاضى عن نشر الكراهيات السقيمة التي تجتاح المدن والقرى فتخلف الخراب وفساد النفوس وتدمير الثقة، وتنزع الأمن وتزرع الخوف؟

الانحياز الأعمى وراء المصالح الأنانية للجماعة، هي سمة الأفراد العاديين، فكيف تصبح أفيونا تدمنه النخبة وتقتات عليه؟ كيف يمكن لمثقف يمتهن رسالة فكرية أن يطعم قراءه بضاعة فاسدة تقوم على إثارة العصبيات والأحقاد والضغائن ونبش الماضي، وهو يعلم أنها وجبة مسمومة لا تخلف سوى الحروب والدمار؟

لقد مر وقت كان فيه المثقف أسير الجماعة؛ القبيلة، الطائفة، يعيش في تابوهاتها المعتمة. اليوم أصبح الوضع أكثر سوءا، فالجماعة برمتها أصبحت مخطوفة من قبل أحزاب تدعي الدين ورجال يدعون المقاومة وهي تقود الآخرين كالقطيع للذبح والدمار، وتقودهم نحو فتن عمياء، وخيارات انتحارية.

لقد آن الأوان للخروج من أسر الجماعة التي تستلب من الإنسان إنسانيته وحريته واختياره. والمجاهرة برفض تلك الخيارات التي تتعاطى مع الناس على أنهم أدوات في بيادق الحروب التوسعية. هذه مسؤولية المثقف الذي يعرف أهمية حريته وكرامته. أما مسؤولية الآخرين فهي توفير شبكة أمان اجتماعي لا توفر «مذعورين» وخائفين يرتمون في أحضان تجار الموت بدعوى البحث عن الحماية والأمان.