جمعة اللامي: الثقافة الحقيقية لا تتطور مع الطائفية أو الديكتاتورية

الأعمال الكاملة لـ«روائي جنوب العراق وأساطيره» صدرت أخيرا

TT

منذ أعوام طويلة وأنا ألتقي الكاتب جمعة اللامي، سواء في منزله في الإمارات حيث يقيم منذ سنوات طويلة، أو في المقاهي، ولكنني لم أتمكن من محاورته إلا أخيرا.

تتميز أعماله الغزيرة بالعمق والأصالة: «من قتل حكمة الشامي؟»، «اليشن»، «الثلاثيات»، «أسواق السيدة البابلية»، «مجنون زينب»، «عيون زينب»، «كتاب الكائنات»، وأخيرا صدرت أعماله الكاملة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت).

يختزل القاص والأديب العراقي، المغترب، جمعة اللامي، سيرة أمكنة أسطورية عاشها في الجنوب، وظلت في ذاكرته، فاختلطت حكايته الشخصية بحكاية وطنه العراق، على امتداد أكثر من نصف قرن. رحلة شاقة، من العمارة إلى بغداد، إلى نقرة السلمان، (أمضى خمس سنوات في هذا السجن) وبيروت، ومن ثم غادر العراق عام 1979 واستقر في الشارقة، وعمل كاتبا متفرغا في جريدة «الخليج»، وهو متفرغ حاليا لإنجاز أعماله الأدبية.

من مخطوطاته الأولى في السجن وحتى رسائله الأخيرة إلى زينب، يسعى اللامي إلى تجسيد الجنوب وأساطيره، بكل معانيه المادية والرمزية. هنا حوار معه:

* هل أثارتك ثيمة الحرب فشكلت مادة في أعمالك؟

- لا أستطيع أن أكتب بالطريقة التقليدية عن الحرب. يمكنك أن ترى في «مجنون زينب» إحالات إلى الحصار، وفي «عيون زينب» إحالات إلى دخول القوات الأميركية إلى العراق. إنني لا أقدر أن أكتب رواية بالشكل الذي أطلق عليه سارتر اسم «تحقيق صحافي طويل»، لأني في هذه الحالة لا يمكنني أن أنسجم مع نفسي. في «اليشنيون»، نسبة إلى أهالي قرية «اليشن» في العمارة (جنوب العراق)، تعثر على احتلال بغداد في داخل النص. تاريخنا القديم المروي عبارة عن داحس والغبراء، سلسلة لتنتهي منها، تعود إلى الواجهة في كل عصر بشكل ما.

* ألا تعتقد أن الأدب في العراق لم يصل إلى مستوى المأساة التي حلت بالبلد؟

- كلامك صحيح. لكن هذا الأدب لا يظهر في فترة قصيرة، بل تحتاج الكتابة عن الحرب مدة لا تقل عن عقدين، كما حصل في اليابان وألمانيا وفرنسا وغيرها، لأن عملية الكتابة تحتاج إلى مسافة بعيدة ينظر من خلالها الكاتب. ولعل أسوأ ما في هذه الحروب، أنها جاءت متتالية، محت كل شيء وخاصة الذاكرة، وجعلتها منقطعة عن تاريخ العراق الحقيقي. لم يمر العراق إلا بفترات قصيرة من الازدهار والنهضة كما حصل بين الستينات والسبعينات.

* وما تأثيرات تجربة السجن على إبداعك الأدبي؟

- لعلك تتذكر كتابي «من قتل حكمة الشامي؟»، وأنت من الجيل الذي قرأه، فهو نص متمرد جاء نتيجة المناخ السياسي المتوتر الذي ساد الستينات وبداية السبعينات في العراق. وهو كما تعلم يتحدث عن شخصية ذات أبعاد ملحمية عاشت في بغداد، وبالذات في حي الفضل، وهو خليل أبو الهوب، شخصية حقيقية وليست متخيلة كما يعتقد البعض. بدأ شابا مليئا بالحيوية والفتوة، وانتهى به المطاف مناضلا في صفوف الحزب الشيوعي، ثم تم اغتياله على يد السلطة الحاكمة آنذاك.

* أعتقد أن هذا الكتاب ليس إشكاليا في طرحه لشخصية مناضلة اعتادها المجتمع العراقي بعد انقلاب 1963، بل هو إشكالي في كتابته وصيغته الأدبية المتقدمة في الأدب العراقي في تلك المرحلة؟

- نعم، هذا صحيح. إنها قصة متمردة، وبالذات في شكلها الكتابي الأسلوبي آنذاك، وهذا هو جوهر الإبداع الأدبي. أنا أتحدث عن شخصية معروفة ومشاعة لدى الجميع، ولكنني رفعتها إلى مستوى الرمز. والرمز هو المعادل الموضوعي والأخلاقي لواقعنا. وقد كنا نقرأ في تلك الفترة، أي في الستينات، ما وصلت إليه الحركات الطليعية في الأدب، ونتأثر بها. ثمة حركة تأثيرات متبادلة من الوجودية والماركسية والبنيوية والدادائية والمستقبلية، وغيرها من اتجاهات وحركات طليعية مع الأدب العراقي في الستينات، ولعل العراق كان من أفضل البلدان العربية تلاقحا معها، ولذلك أنتج أدبا طليعيا في الشعر (بدر شاكر السياب)، والفن التشكيلي.

* ثمة رموز أسطورية تتخلل جميع أعمالك تقريبا، فهل مرد ذلك إلى نشأتك في الجنوب المليء بهذه الأساطير؟

- ولدت ونشأت في جنوب العراق، وهي طبيعة تتميز بالغنى غير الطبيعي في تاريخها، توالت عليها خمس حضارات كبرى متنوعة، وكل منها تحتوي على خزين ثري، لا تزال شواهدها موجودة لحد الآن ماديا وروحيا. فلا يمكن إزاحة هذه الحضارات عن عالم الكتابة، بل هي ينبوع إلهام حقيقي لها، ولكل المبدعين. والكتابة بحد ذاتها هي فعل يرتد إلى الماضي، بينما الإعلام يتصدر الحاضر. ومن دون هذه الرموز تصبح الكتابة سطحية. إنني أتكلم عن المدينة التي في ذهني، ليس بمعنى المدينة الواقعية، بل بمعنى البحث عن الفكرة المفقودة، الحرية، العدالة، الحميمية، التاريخ، والحلم.

* جعلت من «اليشن» رمزا قائما في أعمالك؟

- «اليشن» مدينة اكتشفتها في خرائطي الشخصية قبل أعوام، تقع جنوب محافظة ميسان. لقد عشقت هذه المدينة؛ فقد كنت أسافر إليها مرتين في السنة، وأظل هناك بضعة أيام بين الأنقاض المهجورة، أنقب وأبحث دون تعب. وكما قلت في «كتاب مخطوط في المدينة» إنه في عام من أعوام القحط أغارت إحدى القبائل البربرية على مدينة اليشن، فقتلت من الناس كثيرا ورمتهم في المستنقعات القريبة من نهاية الصحراء. ورغم أن القصص والحكايات كثيرة حول تلك الغارة، فإن واحدة منها تتصل بنبوءة يعرفها جيدا مجلس العلماء، تقول النبوءة: «سيهاجم البرابرة مدينتنا». وقد هاجموها بالفعل كما ترى.

و«اليشن» كلمة سومرية قديمة، موجودة في الأهوار، وهي تتكون من مجموعة من الجزر في الماء، وهناك يابسة مرتفعة، وجد فيها الناس الأختام السومرية الأولى. تقول الأسطورة إن الناس فيها خرجوا من البحر، وهي منطقة البطائح جنوب الكوت إلى الخليج، وهي جزء من مملكة ميسان التاريخية بعد أن اضمحلت بابل، وقد حكمها 23 ملكا، وهي المنطقة التي مر بها الإسكندر الكبير، منطقة العيلاميين الأولى، واشتهرت فيها مرتفعات تسمى فليفلة. هذا هو فضاء أعمالي الأدبية، وكذلك مكان طفولتي.

* و«اليشينيون» أو أهالي اليشن، هل تجتمع قصصها حول ثيمة واحدة؟

- يمكن قراءة «اليشينيون»، وهي مثل فكرة «دبلنيون» أو أهالي دبلن لجيمس جويس، كلها تدور حول ثيمة واحدة، بل كأنها قصة واحدة، وفيها سيرة شخصية عربية هي: جلال الدين الهاشمي، في إشارة إلى جلال الدين الرومي. ومعروف أن المانوية خرجت من ميسان مدينتي. كما تجد فيها مختلف الثقافات: الفارسية والهندية والعربية وجميع الثقافات الشرقية وغيرها.

* المعروف أن العراق متعدد الثقافات والحضارات، كما أشرت إلى ذلك، فكيف يجب أن يكتب المبدع في هذا البلد؟

- على مر التاريخ، لم يكن للمفهوم العرقي للثقافة العراقية من وجود، رغم كل الرياح العاتية التي عصفت به عبر التاريخ، ولكن الثقافة الوطنية تعثرت في هذا البلد، وحصل خلل ما في مسيرتها. على سبيل المثال، يوجد في الهند 500 لغة، ولكن الثقافة التي أنتجتها هذه اللغات هي الثقافة الهندية الواحدة. وهناك مثال آخر، في هولندا كانت توجد قبيلتان: ألمانية وفرنسية، فعملوا على استحداث لغة جديدة هي اللغة الهولندية، ولم تسد لا الألمانية ولا الفرنسية. يمكنني أن أذكر رسول حمزاتوف، فلو كتب باللغة الداغستانية لما حاز هذه الشهرة الكبيرة، أي أن اللغة الروسية أعطت إبداعه الكثير من الاتساع والانتشار. والفرنسية كانت لغة البلاط الروسي أيام زمان؛ لأنها كانت لغة الأدب الرفيع ليس إلا. وهكذا بالنسبة لنا في العراق، فنحن نتوفر على ثقافة عراقية حقيقية لا يعرفها الآخرون، كل شيء في هذا التاريخ يجب أن يكون في خدمة الإنسان، إنها ثقافة كونية، وذات أبعاد حضارية غارقة في التاريخ الإنساني، ونحن محظوظون بذلك.

وإذا سألتني عن مستقبل الثقافة في العراق، فأقول لك: إنها ثقافة الازدهار في المستقبل بعد أن تتخلص من كل شوائب الطائفية؛ لأن الثقافة الحقيقية لا تتوافق ولا تتطور مع الطائفية ولا مع الديكتاتورية. إنني عربي وسجنت سبع سنوات من أجل الأكراد، وخمس سنوات لكوني شيوعيا، وكان بيننا الكردي والعربي والتركماني والشبكي والأيزيدي، كلنا سجنا من أجل قضية واحدة. هذا هو العراق الحقيقي.

* ثمة علاقة ملتبسة بين الكاتب العراقي المبدع والسياسة أو الدولة، فما رأيك؟

- علاقتنا بالدولة لا تزال ملتبسة، وربما علاقتنا بالسياسة أكثر وضوحا وشفافية. الدولة العراقية موجودة تاريخيا، ولكن الحكومات تزول، أراغون وديغول يقولان بأنهما فرنسيان، ويعتبران الدولة ملكا لهما. لا توجد مشكلة؛ لأنهما ينتميان إلى هذه الدولة. لذلك أجد أن ثمة قصورا عندنا، كتابا وشعبا، لمفهومنا للدولة. البيئة العراقية ملك لنا جميعا، وأتذكر بعد خروجنا من السجن، التقينا مع الراحل إبراهيم زاير ومحمد خضير، فسألنا زاير: ماذا ترك لنا دويستوفسكي للكتابة؟ فقلت له: ترك لنا الكثير. كتب محمد خضير «المملكة السوداء»، وهي تصور جانبا من البصرة، حياة السود فيها، مثلما أخذت حياة السجن أعمالي. القصد من ذلك أن الإبداع ينهض من خلال الاتصال بالبيئة العراقية الحقيقية. عندما تردد محمد خضير في نشر مجموعته الثانية «في درجة 45 مئوي» في وزارة الثقافة العراقية عام 1978 وطلب مشورتي، شجعته على قبول نشرها، لكي لا يتصدر العنصر الرديء المشهد الثقافي العراقي آنذاك. إنه مجرد مثال لعلاقتنا بالدولة، وليس الحكومة، التي يجب أن تكون للجميع.

* هل تعتقد أن أدب الجنوب متميز عن غيره حتى على مستوى العالم؟

- أعتقد ذلك. فقد تعلمت الكثير من رواية «الصخب والعنف» لويليام فوكنر؛ لأنه يتحدث عن مدينة للهنود الحمر اسمها «نيوكابادا» التي أرادها أن تصبح مثل جمهورية أفلاطون، وفيها الأساطير العجيبة، كأن يمسك رجل حوتا ويعرضه للشمس ليشويه. وفوكنر حثني على معرفة موروثي أكثر فأكثر، والأعمال الأدبية الحقيقة تلائم جميع الشعوب، على سبيل المثال مسرحية «أجامليون» و«عطيل» يمكن أن تأخذ شكل مسرحية يابانية أو تركية أو شرقية. والجنوب هو تأويل عن جنوب العالم، وجنوب الروح.

* أنت ومحمد خضير تتجنبان كتابة الرواية التقليدية، وتركزان على كتابة القصة القصيرة.. لماذا؟

- ربما يعود ذلك إلى التركيب المعقد للرواية. بالنسبة لي لم أحاول كتابة الرواية التقليدية لأنني أكتفي بالشكل الذي أكتبه، أما محمد خضير فهو يخشى مغامرة الدخول إلى عالم الرواية.