إبراهيم المنيف.. من سنوات الجدب إلى انفجار النفط

أنجز أول تدوين عربي في مجال الإدارة التنفيذية

غلاف السيرة
TT

يقدم الدكتور إبراهيم بن عبد الله المنيف سيرته في كتاب حمل عنوان: «النفط.. الطفرة.. الثروة - خمسون عاما في الإدارة التنفيذية»، الذي صدر أخيرا. وما يميز هذه السيرة أنها أول تدوين لما كانت عليه الإدارة في الوطن العربي خلال القرن العشرين، وهي تركز على الحالة الإدارية في السعودية قبل الطفرة النفطية وما بعدها، من خلال تجربة سنوات تصل إلى ما يزيد على 50 عاما قضاها صاحب السيرة مع العمل الإداري كاتبا، وطابعا، ومحاسبا، وسكرتيرا، ومشرفا على شعبة، ومدير قسم، ومدير دائرة، ورئيس إدارة، ومديرا عاما، وعضوا في مجلس المديرين لما يزيد على عشرين شركة، إلى جانب النتاجات الأكاديمية والبحثية التي صدرت في عشرين كتابا ومئات البحوث الإدارية، وآلاف المقالات في مجلة «المدير» التي أصدرها عام 2001 وتعد الأولى من نوعها في العالم العربي.

والحديث عن سيرته يتجاوز الجانب الشخصي، على نحو ما ذهب إليه الدكتور إحسان عباس في كتابه «فن السير»، عندما أكد «أن السيرة الذاتية ليست حديثا ساذجا عن النفس، ولا هي تدوين للمفاخر والمآثر، وصاحب السيرة الذاتية يحدثنا عن دخائل نفسه، وتجارب حياته، فيثير فينا الرغبة في الكشف عن المجهول، وكل سيرة تجربة ذاتية للفرد، والمهم أن تبلغ التجربة رؤيتها إلى الماضي على أساس من نظرة ذاتية».

سيرة للتدوين الإداري

ومن جانبه، يشدد المنيف على أنها سيرة ذاتية للسلف، ولعصر عربي جديد في التدوين الإداري، وليس التدوين الأدبي أو التاريخي، ذلك الذي نفتقده وغير المألوف، وزاد في القول: «رأيت أن أدون تجربتي الشخصية قبل أن يسجلها الآخرون، كما هو معتاد، بإطلاق الأساطير، أو بجعل أصحابها أسطورة».

وتغطي السيرة فترة ما قبل الطفرة الأولى والسنوات العجاف التي مرت بعدها ودامت عشر سنوات بهبوط أسعار النفط بشكل كبير، ولعشر سنوات أخرى ما بين 1985 و1995، كابدت فيها اقتصاديات دول الخليج صعوبات كبيرة، بالإضافة إلى وقوع حربي الخليج الأولى والثانية، خلال الفترة من 1980 إلى 1990، مما أثر فيها بشكل سلبي، ولكنها تمكنت من اجتيازه.

ويعرفنا المنيف في سيرته الذاتية على الحال التي وصلت إليها بعض الدول العربية في فترة زمنية ماضية، وكيف تحولت من مناطق جذب للبشر إلى مناطق طاردة لأبنائها، ساردا قصة الهجرة التي فرضتها الأحوال الصحية والمعيشية لأبناء الجزيرة العربية قبل ثلاثة قرون مضت، وترحالهم إلى بلاد الشام، ومصر، وبلاد الرافدين، تلك الدول التي استقرت حضاريا بفعل توفر المياه والأنهار فيها، وبالتالي قيام الزراعة والتجارة. لكن تحولت هذه الدول، دول الهلال الخصيب، لاحقا إلى بيئة طاردة، وأصبحت الجزيرة العربية بيئة جاذبة بدلا مما كانت عليه كبيئة طاردة.

ويعرج صاحب السيرة على مرحلة قام بها الأجداد وتمكنوا خلالها من استيعاب هذه الحضارات التي هاجروا إليها، مع الاحتفاظ بموروثاتهم، واستطاعوا أن يثبتوا أقدامهم على أرض تلك الحضارات، ويصبحوا رقما فيها، وصنعوا تجارة انتشرت وتوسعت حتى أصبحوا كالبنوك الاستثمارية المتحركة بمفهوم اليوم. وأعطى في هذا الصدد نموذجا للمهاجرين النجديين، بعد أن مرت بأرضهم حالة من الجوع والفاقة ونزح نفر كبير منهم من خماسية: الجوع، والجدب، والجرب، والجراد، والجدري، طمعا في كسب الرزق، والبحث عن حياة أفضل في الشام ومصر والعراق، مقدما «العقيلات» أنموذجا لهذه الهجرة، حيث كانت عائلة المؤلف ضمن من هاجر من قريتهم «قصيباء» من محافظة عيون الجوا في منطقة القصيم، تلك المنطقة التي شكلت الرقم الأكبر في هذه الهجرات. وكان آخر أفراد عائلة المنيف جد المؤلف إبراهيم بن علي المنيف، الذي هاجر مع أحد قوافل العقيلات عام 1880، وإقامته في بلاد الشام، وأصبح ثريا وتعلم القراءة والكتابة، وكان له تعامل مع البنوك في سوريا ولبنان، كما أن له تجارة واسعة بالإبل والأرزاق.

ولولا سفر جد المؤلف إلى بلاد الشام لما عاش من عائلة المنيف أحد بسبب الحمى التي انتشرت في بلدته، حيث وصل أبناؤه وأحفاده الآن إلى ما يقارب 162 فردا من تاريخ وفاته عام 1936م، أي بعد مرور 70 عاما على رحيله، ومنهم عم المؤلف الروائي الشهير الراحل الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم المنيف، صاحب «مدن الملح».

* عمر في الإدارة

تنقل صاحب السيرة في عدة قطاعات خاصة وعامة، لعل أبرزها شغله منصب مدير عام «الشركة السعودية الموحدة للكهرباء» حتى عام 1985، ومدير عام صندوق التنمية العقارية 1980، وقد طرح نظرية غير مسبوقة في كيفية إعداد القادة سماها «الجدارة» بتحديد مقومات القيادة الإدارية التي تجمع بين الإدارة والقيادة معا، هذه المقومات أساسها الجدارة الفكرية والخلقية والحرفية، وقبل ذلك كله الجدارة البدنية، كما نجح المنيف الذي شغل منصب مدير عام الإدارة العامة بالمنطقة الغربية من السعودية حتى عام 1973، في تصميم برنامج «إعداد المديرين» مخصص للشباب ممن تخرجوا في الجامعة بتخصص هندسة أو آداب، أو أي تخصص غير الإدارة، والتحقوا بالخدمة المدنية لتجهيزهم وتدريبهم بداية على أساس ومبادئ الإدارة والقيادة، يقول المنيف عن هذه التجربة: «أصبح جميع الخريجين من هذا البرنامج من كبار موظفي الحكومة، لقد أصبحوا قادة إداريين».

ويشدد المنيف بالقول: «لقد مارس القادة العرب في إدارة الأجهزة الحكومية، وكذلك في القطاع الخاص خلال القرن العشرين، مهمة (البطل الذي لا يمكن الاستغناء عنه) بشكل مرعب أدى إلى استدامتهم دون تأسيس وتمكين وتجهيز لقادة المستقبل. وهذه الممارسة غير السوية في اعتبارهم المتضخم لذواتهم، وأنه لا يمكن الاستغناء عنهم، هي المسببة الرئيسة لنقص القادة في العالم العربي كله، ولهذا لم يكن ممكنا تمكين جيل جديد من القادة».

وأورد صاحب السيرة خلال تناوله لجزئية تتعلق بمدى ارتباط التعيين والترقية بالولاء والمحبة قصصا من التراث العربي تخدم المجال، منها أن هارون الرشيد قرر أن يختبر ابنيه (الأمين والمأمون) فطلب من كل واحد منهما أن يكتب رسالة إلى أحد الولاة يخبره فيها بعزله عن الولاية. جاء الأمين برسالة من ثلاثة صفحات موجهة لهذا الوالي. بعد قراءتها لم يتيقن هارون الرشيد بأن ذلك الوالي سيعرف منها إنهاء خدماته. في حين جاءت رسالة المأمون معتبرة ومعبرة وبسطرين مقارنة بثلاث صفحات للأمين لتقول: «أما بعد، أحببناك فعيناك، وكرهناك فعزلناك، يد في الخطاب ورجل في الركاب والسلام عليكم».

واعتبر المنيف أن سوء العمالة العربية القائم حاليا من سوء قيادتها الإدارية لا محالة، وهذا ما ذهب إليه نابليون عندما قال: «لا يوجد جنود سيئون، بل يوجد قادة سيئون»، و«سوية القوى العاملة العربية من سوية قيادتها، وهذا خيار أو افتراض منطقي نقر بنجاعته كمدخل فكري استراتيجي نحو إعداد القيادات الإدارية العربية»، مطالبا ببناء قيادات إدارية فكرية إبداعية وابتكارية في العالم العربي، لديها طاقم تكنوقراطي من العاملين الإداريين ممن يترجمون الأفكار والابتكارات والإبداعات إلى مرحلة تنفيذية تتم ممارستها وقياس مدى نجاحها والحصول على التغذية المرتدة، أو ترجيع الأثر لما أفرزته القيادة من تفاعلها مع الإدارة من خلال التنفيذ، بما يعكس تجربة عربية إدارية قابلة للنقل وإعادة التجربة في بيئة ونشاط آخر في العالم العربي.

وفي رأيه، أن مجتمعنا الإداري العربي على مدى نصف قرن أفرز كما هائلا من الإداريين ممن تمكنوا بطريقة أو بأخرى من التمكين الذاتي أو التمكين المؤسسي أو حتى الطوعي في وصول هذه الفئة إلى مرحلة المديرين. إننا نريد الآن تحويل هذه الكمية الهائلة والكمية الكثيرة، والكمية التي ازدادت عن الحاجة من مديرين إلى قادة.

بقيت إشارة إلى أن صاحب السيرة لم ينس أن يشير إلى إنجازاته التي لم يدع أنه أتى بها أو نفذها وحده، بل لمح إلى أنه المبتكر والمحرض والمحفز والمحرك لها، ضمن فريق وكوكبة من العاملين، لعل أبرزها: تجهيز وإعداد وترتيب وتنظيم أول مكتبة إدارية متخصصة في الوطن العربي بمعهد الإدارة العامة، وتجهيز وإعداد أول فرع لمعهد الإدارة في جدة من خلال تشييد وترميم أقدم مبنى إسمنتي معروف تم إنشاؤه عام 1936 وتحويله فرعا لمعهد الإدارة العامة، وتنظيم وتفعيل الإقراض السكني والاستثماري وإعداد آليات منح القروض حسب الترقيم الأولوي بكل عدالة قائمة حتى الآن بصندوق التنمية العقارية، وتفعيل وتنفيذ الأمر بمنح خصم 20 في المائة للمقترضين لبناء مساكنهم الخاصة، و10 في المائة إضافية لمن يقوم بتسديد كامل القرض، كما أنجز صاحب السيرة إعادة 660 مليون ريال بفعل تقنية الحاسب الآلي (برمجة الكومبيوتر) لمن حصل على أكثر من قرض سكني واحد، فلم يكن ممكنا إطلاقا اكتشاف ذلك إلا بوجود هذه التقنية التي أدخلها لأول مرة، ويستخدم الآن للرقابة على عدم حصول أي مستفيد على أكثر من قرض، كما سجل صاحب السيرة أنه حول 340 مليون ريال إيرادات إلى وزارة المالية نتيجة تشغيل أرصدة صندوق التنمية العقارية، بإقراض البنوك المسعودة حديثا في عام 1979، كما حقق صاحب السيرة أول عملية دمج لما يزيد على 40 شركة كهرباء، وتوحيد الجهود في شركة واحدة، وتنظيم قطاع الكهرباء بإنشاء أول مركز تدريب، وابتكار العقد الموحد، وتسديد فاتورة الكهرباء بالبنوك، وتحويل رواتب العاملين إلى البنوك لأول مرة في العالم العربي، وابتكار وإنشاء أول صندوق تعاوني لموظف الكهرباء المستمر حتى الآن، بالإضافة إلى صرف 500 مليون ريال من الصندوق والمدفوع ذاتيا من العاملين في الكهرباء بالمنطقة الوسطى، قروضا وإعانات وهدايا وضيافات، ومباني خاصة لنادي الكهرباء، إضافة إلى إصدار مجلة «المدير» التي تعد أول مجلة عربية متخصصة في تعليم المديرين، وتفعيل وتنشيط وإحياء أول ترخيص تعديني للقطاع الخاص، وتوقيع وبدء إنتاجه بمعادن الذهب والفضة والنحاس والزنك العام الماضي.