العلم بين العرب والصين والغرب

تفوق العلم العربي على غيره في القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر ثم تراجع إلى اليوم

TT

يسعى كتاب «فجر العلم الحديث ـ الاسلام ـ الصين ـ الغرب»، للاجابة عن سؤال شغل الباحثين كثيراً في الشرق والغرب، وهو:

ـ لماذا اخفقت الحضارتان: الاسلامية والصينية في انجاب العلم الحديث، بينما تمكنت اوروبا من ذلك، رغم تأخرها مسافة شاسعة عن هاتين الحضارتين اللتين كانتا قد قطعتا شوطاً بعيداً عن طريق التقدم العلمي.

فالحضارة الاسلامية، على سبيل المثال، سبقت اوروبا في علوم الرياضيات والفلك والطب والصيدلة وغيرها من العلوم حتى القرن الثالث عشر، وهو امر يعترف به حتى خصوم الحضارة الاسلامية انفسهم، غير ان هذا السبق سرعان ما توقف، لتتمكن اوروبا من تجاوزه محققة هذه الهوة الواسعة التي نشهدها، بينها وبين كل الحضارات الأخرى، فكيف حدثت هذه المفارقة؟ وهل انبثقت من أسباب داخلية في المجتمع الغربي، تختلف عنها في المجتمعين الاسلامي والصيني ام انها ترجع الى عوامل خارجية تأثر بها وتفاعل معها المجتمع الغربي، من دون المجتمعين الآخرين؟

في هذا الكتاب محاولة جادة للاجابة عن هذا السؤال، وهو من تأليف «توبي أ. هف» عضو هيئة التدريس بقسم الانتروبولوجيا في جامعة ماساتشوستس في دارتموث دار تموت بالولايات المتحدة، وترجمة د. محمد حسن عصفور، عميد كلية الآداب بالجامعة الأردنية.

يقول المؤلف ان العلم العربي من القرن الثامن حتى آخر القرن الرابع عشر كان أرقى علم في العالم، متفوقاً بذلك على العلم في الغرب والصين، وكان العلماء العرب في الفلك والسيمياء والرياضيات والطب والبصريات وما اليها، في طليعة التقدم العلمي، وكانت الحقائق والنظريات والتصورات العلمية التي تضمها رسائلهم العلمية أرقى ما يمكن الحصول عليه في أي مكان في العالم، بما في ذلك الصين، ولذلك سببان:

ـ الأول، هو ان العرب أتيح لهم الاطلاع التام تقريباً على التراث العلمي اليوناني منذ القرن الثامن فصاعداً، بينما كان هذا التراث مجهولاً لدى الغرب، وقد حدث ذلك نتيجة لجهود هائلة في ترجمة الأعمال العظيمة التي انتجتها الثقافة اليونانية، وغيرها من الثقافات الى اللغة العربية، وقد مثل هذا النقل الفكر اليوناني والفلسفي برمته تمثيلاً كاملاً. كذلك يجب اعطاء استعارة العرب لنظام الاعداد الهندي درجة عالية من التقدير.

ـ اما السبب الثاني فيرى ان العلم الصيني تطور بشكل مستقل على مسارات من صنع الصين في معظم حقول العلم، وقد حدثت تبادلات بين الصينيين والهنود، بينهم وبين عرب الشرق الأوسط، ولكن هذه التبادلات لم تؤد الى تغيرات صينية كبيرة، فهم لا يعرفون شيئاً تقريباً عن ارسطو او اقليدس او بطليموس او الينوس، بينما اصبحت اعمال هؤلاء خاصة بأشكالها العربية المعتدلة والموسعة، منطلقات رئيسية في تطور العلم الغربي الحديث.

ففي الرياضيات مثلاً كان طريق التطور الصيني مستقلاً بشكل واضح عن تطوره في الشرق الأوسط العربي، بحيث اتخذت الانجازات المبكرة في علم الجبر اشكالاً لم يكن من السهل ترجمتها الى صيغ عربية او غربية، وقد مرت الرياضيات بفترة نمو سريع في الحساب الجبري (من حوالي 960 إلى 1279)، غير ان نظام الرموز الصيني وطريقة تعيين الخانات، وأساليب الحساب، كانت معقدة، ولا تسمح باستخلاص القوانين العامة ولا تتصف بمثل السهولة في الاستعمال التي يتصف بها نظام الأرقام العربي الهندي، وقد كان هذا النظام القائم على مواضع واضحة لكل خانة فيه قيمة عشرية متاحة في اعمال الخوارزمي منذ حوالي سنة 825م، وقد نقله الغرب في القرنين (11 ـ 12) ومهد لذلك نظام الأرقام العربي الهندي، وتحول الأوروبيون من المعداد الى الحساب باستخدام الورق والقلم.

وقد كان العلم العربي في الرياضيات والفلك والبصريات والفيزياء والطب، أرقى علم في العالم، لكنه فقد القيادة في حقول مختلفة وفي أوقات متفاوتة. ويمكن القول ان نماذجه الفلكية كانت أرقى النماذج في العالم حتى ظهور الثورة الكوبيرنيكية في القرن السادس عشر. وقد وصل العرب الى حافة اعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال من «العالم المغلق الى الكون اللانهائي».

وتعلم العرب صناعة الورق من الصينيين منذ القرن الثامن في سمرقند، وبعد نصف قرن كان لهم في بغداد مصنع للورق، وأصبح استعمال الورق منتشراً مع حلول القرن العاشر، ويبدو ان انتاج الورق تم حوالي عام 1150 في اوروبا، على يد العرب في اسبانيا. وبتحقيق هذا الابتكار حقق العرب انجازاً بالغ الأهمية، لا لتاريخ الكتاب الاسلامي فقط، بل لعالم الكتب برمته، وأخذ الأوروبيون هذا الفن، وأخذنا نسمع مع حلول القرن الثالث عشر ان ورقاً من الافرن كان يستعمل في مصر.

وبسبب سيادة نظام الأمانة والتوثيق والاجازة، وجدت في القرنين العاشر والحادي عشر مئات المكتبات المنتشرة في جميع ارجاء الشرق الأوسط، ملحقة بالمساجد والمدارس (الكليات)، تضم آلاف المخطوطات المكتوبة باليد اوسع بكثير مما نجده في الصين في تلك الحقبة التاريخية، وكانت هذه المكتبات تشكل مثالا للجامعات التي أخذت على عاتقها تزويد العلم والسكن للتلاميذ القادمين من مناطق نائية، وهناك روايات تذكر ان دمشق كان بها مائة وخمسون مدرسة سنة 1500م، وعدد مماثل من المكتبات، وقيل ان مدرسة أخرى في مصر، تلقت مائة ألف مجلد من مؤسسها القاضي الفاضل في القرن (الثالث عشر) وعندما أقيمت المدرسة المستنصرية، نقلت اليها ثمانين ألف مجلداً من بعض كتب الخليفة، بينما لم يكن في مكتبة السوربون، في القرن الرابع عشر اكثر من ألفي مخطوطة واقتصرت مكتبة الفاتيكان في القرن الخامس عشر على 2257 مخطوطة، لقد كانت المصادر المكتبية في الشرق الأوسط أرقى بكثير من مثيلاتها في اوروبا.

يطور الباحث بشيء من التفصيل النظرة المقارنة للترتيبات المؤسسية والأجواء الثقافية لحضارتي الغرب والاسلام، من حيث تشجيعهما او اعاقتهما لتطور العلم الحديث، وذلك في الكليات والجامعات والعلوم عند الاسلام وفي الغرب وكذلك الأجواء الثقافية والعلمية.

ففي الصين، لم تكن هناك جهود رسمية لتشجيع استقلال الفكر او العمل، وكان النظام التربوي يناهض طلب العلم لذاته، والتربية المثالية من وجهة نظر الدولة الامبراطورية، هي تلك القائمة على العلم في المجالين الأخلاقي والأدبي ودراسة الشخصيات التاريخية التي تعتبر امثلة تحتذى، وكان التوجه المثالي للمثقفين هو «السعي نحو الكمال الأخلاقي في خدمة الحكمة البشرية». وأدى هذا التوجه الى «تقويم الأدب والفن والموسيقى بالقدر الذي تنقل فيه هذه الفنون رسالة أخلاقية او تكون من خلف شخص ذي مكانة اخلاقية عالية، والى تقويم التاريخ وفق ما اذا كانت احداثه قد سادتها شخصيات خيرة او شريرة، وليس من خلال تحليل الحقائق الجغرافية الاقتصادية والمؤسسية بمعزل عن صلتها بالأشخاص». وقد ساعدت الهيمنة الدائمة للآيديولوجية الكنفوشية الجديدة على منع ظهور منهجية مناسبة لدراسة ظواهر الطبيعة، وبذا دفع طلب العلم الى هامش المجتمع الصيني، بينما حدثت في أوروبا ثورة، او نهضة في القرنين (الرابع عشرة ـ الخامس عشر) سهلت مولد العلم الحديث في الغرب ووضعت الحياة الاجتماعية في موضع جديد تماماً، مثل في جانب من جوانب الاندماج العظيم للفلسفة والعلم اليونانيين والقانون الروماني واللاهوت، ووضعت هذه الثورة حدوداً واضحة المعالم، تفصل الدين ـ الأخلاق عن الدولة، وأوجدت دعائم القانونية والمؤسسية لظهور الاتحادات المهنية للأطباء والمحامين والتجار ومع مضي الوقت للعلماء.

لقد وضع طلب العلم في الصين على هامش الحياة الفكرية، ولهذا السبب والأسباب الأخرى، فان عدم انجاب الحضارة الصينية للعلم الحديث أمر لا يدعو للحيرة، كما هو الأمر في حالة العلم العربي.

ان الصين لم تمر بثورة علمية حقيقية، بل بتغيير ثانوي في علم الفلك الرياضي، فقد تمسك الصينيون بأنماط التفكير التماثلي، ولم تظهر في الصين مؤسسات تعليمية كتلك التي ظهرت في الغرب، ولم تحصل فيها فتوح علمية في منطق الفعل واتخاذ القرار، ولعل اكثر ما يثير الدهشة هو ان الحضارة العربية الاسلامية كانت تملك اكثر العلوم تقدماً في العالم قبل القرنين (الثالث عشر ـ الرابع عشر). فقد تفوقت منجزاتها في البصريات والفلك والطب والهندسة والمثلثات، على كل ما كان عند الغرب او الصين، كما ان العلماء في العالم الاسلامي كتبوا رسائل في العلم التجريبي (في البصريات والطب والفلك)، وطبقوا هذه الوسائل الفنية على حقول معينة من البحث العلمي، ولا سيما البصريات والبرنامج البحثي المخصص لتفسير ظاهرة قوس قزح والتجارب الخاضعة للسيطرة العلمية التي أجريت لتحقيق تلك الغاية. وما فعلوه في مجال التجريب في علوم الطب والصيدلة والفلك. ولكن هذه الأنشطة العلمية كثيراً ما كانت تجري في مناطق جغرافية متناثرة وتأثيراتها كانت معزولة، وكانت تجري بما يشبه السرية، وكثيراً ما تأخرت المراسلات بين العلماء او تأخر وصول الرسائل العلمية بسبب بعد المسافات، او انقطعت تماماً بسبب الأحداث المحلية والنزعات السياسية، ومع ذلك فقد مضى العمل قدماً، وتراكمت مع الزمن عناصر لا غنى عنها من النشاط العلمي وأصبحت تراثاً لا مثيل له من الجهد الانساني.

تعتبر الثورة الكوبيرنيكية تحولاً أساسياً في التصور الغربي للكون ولمكان الفرد فيه، وقد قامت هذه الثورة في الغرب وليس في البلاد الاسلامية او الصين، ومن المتفق عليه ان التصور الكوبيرنيكي الجديد للكون، لم يقم على ملاحظات جديدة مذهلة او اساليب رياضية جديدة لم تكن معروفة لدى العرب، وليس من شك ايضاً في ان كوبيرنيكس افاد كثيراً من كتاب «المجسطي» لبطليموس، وهو عمل سهله مجيء المطبعة. كانت الثورة الكوبرنيكية إذن قفزة ميتافيزيقية خالصة امتنع العرب عن القيام بها، او عجزوا عن ذلك، رغم امتلاكهم لما يقرب من قرنين من الخبرة السابقة بالمشكلات الملاحظة التي أثارتها النماذج الفلكية. واختار الأوروبيون بتأسيسهم لنظام من الامتحانات العامة داخل الجامعة، يسيطر عليه اعضاء هيئة التدريس، ان يفترقوا عن التقليد العربي الاسلامي المتضمن التعلم من الأساتذة الذي يشهدون للطالب باتقان لنص معين، ومنح الأوروبيون السلطة الفكرية لحل المنازعات للحكمة الجماعية للعلماء وليس للبيروقراطية التي تشرف عليها الدولة، كما في الصين. وقد استغل الأوروبيون وصول المطبعة في القرن الخامس عشر، ووضعوها في خدمة النشر العلمي على عكس اندادهم في الشرق الأوسط والصين.

وهكذا توافرت مصادر متعددة (فلسفية ودينية) عملت على وضع اساس جيد لدراسة العالم الطبيعي ولوضع الكتاب المقدس موضع التساؤل، بصفته المصدر الوحيد المعتمد للمعرفة عن العالم. وحاولت الكنيسة حصر الخطاب العلمي بما قيل انه تكهنات محتملة فرضية في ما يخص تركيب العالم، ولكن محاولتها كانت عديمة الأثر سواء من الناحية العلمية او من الناحية اللاهوتية. ولم تكن هنالك وسيلة يمكن بواسطتها لسلطة مركزية، دينية او غير دينية، ان تلغي الأفكار النظرية الجديدة لكوبيرنيكس، او أسسها الدينية والقانونية والفلسفية التي رسخت في المؤسسات الكبرى للحضارة الغربية، خلافاً لما كان عليه الوضع في الصين او البلاد الاسلامية.

ان وجود البنية القانونية التحتية التي تدعم المؤسسات الاجتماعية لا يعني اكثر من ان ساحة الملعب قد سويت بحيث يحصل فريق «العقل» على فرصة معادلة تقريباً كفرصة الفريق الآخر لكي يكسب اللعبة.