المثقفون المصريون يكتبون الدستور

بعد عقود من التهميش والدوران في فلك النظام

من مظاهرات 30 يونيو في مصر
TT

بعد عقود من التهميش والتدجين حكمت تعاملهم مع النظام الحاكم، قفز المثقفون المصريون إلى قلب المشهد السياسي، وأصبحوا ورقة مهمة في خارطة المستقبل، التي تشكل الحجر الأساس لدعائم الحياة الجديدة في البلاد. وهو ما تبلور على نحول لافت في اختيار ستة من الكتاب والفنانين والشعراء ضمن لجنة الخمسين التي تضطلع حاليا بمهمة صياغة دستور جديد للبلاد، وهم: الكاتب محمد سلماوي رئيس اتحاد كتاب مصر، والفنان التشكيلي محمد عبلة، والشاعر سيد حجاب، والمخرج السينمائي خالد يوسف، بالإضافة إلى الروائي حجاج أدول، ممثلا للنوبة، والكاتب مسعد أبو فجر، وهو ناشط سياسي ويمثل سيناء. وقد جاء اختيار الكاتب محمد سلماوي متحدثا رسميا باسم اللجنة.

هذه النقلة النوعية في حياة المثقفين المصريين، ماذا تعني، وهل تمثل بالفعل نافذة مغايرة، يطلون من خلالها على هموم وطنهم بشكل أكثر شمولا وعمقا، وتثمينا لدورهم الاستثنائي على مدى أكثر من عامين ونصف العام من عمر الثورة المصرية بكل تحولاتها ومآزقها.. ثم هل نحن بصدد لحظة فارقة يمكن أن نستشرف من خلالها صياغة جديدة لعلاقة الثقافي بالسياسي، يخرج فيها الأول من دور التبعية للثاني، إلى دور المشارك الفاعل في صناعة القرار.

ظلال من هذه الأسئلة وغيرها تناثرت في اجتماع حضره المثقفون المختارون بلجنة كتابة الدستور عقد أخيرا بالمجلس الأعلى للثقافة، طالبهم فيه مجموعة من الكتاب والمثقفين بتحرير الحريات من كل قيد، والنص في الدستور الجديد على حرية الاعتقاد والإبداع والحق في الثقافة والفنون كحقوق أصيلة للمواطنين وإلغاء النصوص الفضفاضة التي تحدد حرية الأعمال الفنية بعبارة «بما يتوافق مع قيم المجتمع»، حيث إن هذه الجملة مطاطة وغالبًا ما استخدمت للرقابة والتضييق على الأعمال الفنية.

واعتبر الكاتب محمد سلماوي، أن نضال المثقفين أثمر وجودهم في لجنة لكتابة الدستور، مؤكدا أنه سيتم وضع دستور جديد، عبر مراجعة كل بنود الدستور القديم من المسودة التي قدمتها إليهم لجنة العشرة. وقال سلماوي إن مسودة المشروع تكاد تكون مختلفة بالكلية عن دستور عام 2012، الذي وضع في ظل حكم الرئيس المصري المعزول محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وهيمنت على لجنته أغلبية من التيارات الإسلامية. بينما قال الفنان التشكيلي محمد عبلة، إن المثقفين لن يخيبوا ظن المصريين بهم، مؤكدا أن أحلامهم ستتفق مع أحلام المصريين، قائلا إنه في عهد «مرسي وشركاه» كان المثقفون يتحدثون عن الدستور في المقاهي العامة، والآن تبدل الحال وأصبحوا هم من يصنعون الدستور وهي فرصة تاريخية يجب استثمارها على النحو الأكمل.

وشدد الشاعر سيد حجاب على أنه سيطالب بأن يستشرف الدستور القادم آفاق المستقبل «لأننا نؤسس لمصر ما بعد الحداثة»، لافتا إلى أنه من المهم ألا يعتبر المثقفون أنفسهم ممثلين عن الجهات التي رشحتهم، بل هم مثيرون للحوار المجتمعي وممثلون عن الشعب بأكمله. مؤكدا أنهم إذا استطاعوا فعل ذلك فسيجري تمثيل المجتمع بشكل صحيح.

وأكد أن مفهوم السياسة نفسه سيتغير ويصبح في هذا الزمن هو إحقاق الحق، لأن الشعب أسقط كل مناورات البرغماتية وأسس لمفهوم جديد من الديمقراطية، مؤكدا «إننا أقوياء لأن الشعب هو المراقب الحقيقي لكل من يدعي تمثيله».

وأضاف حجاب: «لا بد أن ندرك تماما أن هذا الدستور يجب أن يفصل بين العمل الديني والسياسي، والتأكيد على الهوية المصرية دون التدخل في مواد تنحرف بالهوية المصرية».

وقال المخرج خالد يوسف: سأسعى إلى ترجمة شعارات الثورة إلى مواد ملزمة، بحيث ألزم الدولة بنص دستوري يجعل للفرد نصيبا من ثروات بلاده. كذلك أطالب بالحرية سواء للفرد أو الوطن، وهي أمور سنستميت لزيادتها إلى الحد الأقصى، فالدستور يحمي الحرية ولا يقيدها.

وأكد يوسف أن هناك خطوطا حمراء لا يجب أن نتنازل عنها لأنها أحلام للمصريين، وإذا تنازلنا عنها سيسقط الدستور من جديد، منها مثلا أن يقر الدستور وجود أحزاب على أساس ديني حينها سنعود للشارع من جديد.

أما الكاتب السيناوي مسعد أبو فجر، فذكر أنه سيعمل جاهدًا على تحويل أحلام بسطاء سيناء لمواد دستورية. وأضاف أنه لا بد من أن ينتهي زمن تهميش المصريين خارجيًا كانوا أو داخليًا، مشيرا إلى أن الدستور ليس لحل المشكلات بل لرسم سياق تشريعي يسير عليه الجميع.

وأكد حجاج أدول أنه سيهتم بدستور مصر بأكمله ثم النوبة بالأخص، لأنه مصري نوبي، مشيرا إلى أنه سيعمل على توحيد كلمة النوبة معه في اختيار المواد التي تهم الشأن النوبي، مؤكدا أن القائد أو الزعيم الأوحد انتهى وأصبح العمل الجماعي هو السائد في المجتمع المصري بكل طوائفه.

وبعين خيال أكثر اتساعا وواقعية يقول الشاعر صلاح اللقاني: «نزول المثقفين ميدان العمل السياسي المباشر مع الجماهير بدأ بشكل جماعي مع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011 في تمام التحامه مع الناس، ودورهم تأكد في الفترة التي شغلت المسافة الزمنية من 25 يناير 2011 حتى 30 يونيو (حزيران) عام 2013، وبالذات في ثورة المثقفين ضد الدكتور علاء عبد العزيز وزير الثقافة المنتمي لجماعة الإخوان الذي أجبره المثقفون باعتصامهم الشهير على ألا يدخل مكتبه منذ تعيينه حتى إقالته. قدر المثقفين في مصر ألا ينعموا بدفء البرج العاجي لأن تنين التخلف والجهل أشرس وأقوى من أن نتركه يعيث في الأرض فسادا. لقد خربت الفاشية الدينية أنظمة التعليم جميعها في مصر، حتى صار لدينا الطبيب المتطرف والمهندس المتطرف بل وحتى حامل شهادة الدكتوراه الذي يعيش في خصومة مع العصر، وفي تناقض مع مناهج التفكير العلمي. فقد انتشر خطاب القرون الوسطي بأساطيره وخوارقه من خلال الإذاعة المسموعة والمرئية ومن خلال المساجد والزوايا وقاعات الدرس والتحصيل، ويلاحق الجميع في البيت والعمل والتاكسي والأوتوبيس والمآتم والمناسبات القومية، حتى صار تخريب العوام وتجهيلهم عملية تدور على قدم وساق في طول البلاد وعرضها».

ويخلص اللقاني مؤكدا أن ثورة 25 يناير كانت ضد الاستبداد المدني، وجاءت ثورة 30 يونيو ثورة على الاستبداد الديني، لتفتح لنا بابا حقيقيا على الحداثة والعصر من خلال منع إقامة أحزاب سياسية على أساس ديني أو طائفي، ومن خلال حماية حقوق الإنسان في العدل والحرية، وحماية المرأة من البطريركية الذكورية. لذلك كله فالمثقفون هم حراس الدستور من جيش الظلاميين الذين يعدون العدة لفرض ولاية الفقيه علينا، وفرض هوية البادية على روح مصر الخضراء. وليس غير المثقفين من سيتصدى لمقاومة سرقة الثورة من جديد.

وتحدث الشاعر أسامة عفيفي رئيس تحرير مجلة «المجلة»، عن «دور المثقف التراكمي»، مؤكدا أن هذا الدور كان اللاعب غير المباشر في إشعال ثورة 25 يناير عبر تراكم ثقافي مقاوم ونضالي منذ السبعينات وحتى الثورة. ولفت عفيفي إلى أنه قد تجلي ذلك في تبني الثوار الشباب لقصائد وأغان وشعارات وطنية تحولت إلى أيقونات ثورية تنتمي كلها للتاريخ المقاوم للثقافة المصرية، وعلى حد قوله: «لقد احتلت قصيدة (لا تصالح) للشاعر أمل دنقل المشهد وأغاني الشيخ إمام جنبا إلى جنب مع أشعار نجم وجاهين وفؤاد حداد. ورغم وجود المثقفين المصريين بمختلف أجيالهم في أتون ثورة 25 يناير، فإنني أرى أنه كان حضورا رمزيا أكثر منه ثقافيا ونضاليا.. إنه (مشاركة) بحكم الانتماء لحلم الثورة الذي بشر به المثقفون أنفسهم عبر عقود من الكفاح. لكن أنا ممن يرون أن المثقفين تحولوا من خانة المشارك إلى خانة الفاعل الرئيس عندما انتفضوا في مايو (أيار) الماضي ضد مشروع أخونة الثقافة المصرية بتعيين وزير أتى لتفكيك الثقافة المصرية ومسخ الثقافة الوطنية، هذا الحدث الفارق هو الذي جمع المثقفين بمختلف تياراتهم للدفاع عن الثقافة الوطنية وما تلاها من تنظيم اعتصامهم في مقر الوزارة، والذي تحول إلى بؤرة فعل ثقافي ربطت عبر شهر ونصف الشهر بين المثقف والشارع من خلال احتفاليات إبداعية مقاومة التف حولها المواطن العادي وتحول موضوع أخونة الثقافة وتفكيك الوزارة من شأن ثقافي إلى هم عام وقضية مجتمعية أسهمت في إطلاق شرارة 30 يونيو، وربطت لأول مرة بين المثقف والشارع العادي».

وحول مشاركة المثقفين في لجنة صياغة الدستور يقول أسامة عفيفي: «أنا أرى أن ضم أسماء ثقافية كثيرة إلى لجنة الدستور جاء نتيجة هذا الدور الجديد للحركة الثقافية التي خرجت من أسوار القاعة إلى بسطاء الشارع والتحمت بهم. ولعل هذا من أهم المتغيرات التي شكلت ملامح 30 يونيو ولعله أيضا يسهم في صياغة دستور معبر عن الثقافة الوطنية التي تشكل هوية الأمة، لذا فأنا أعول كثيرا على المثقفين الموجودين في لجنة الدستور في توجيه دفة الحوار لإنتاج دستور يحترم حرية الرأي والتعبير والإبداع وينتصر لحق المواطن في الثقافة والفنون ويؤسس مرجعية ثقافية وفكرية للمشروع الوطني التحرري الذي أفرزته ثورة 30 يونيو».

لكن الشاعر محمود قرني يتساءل: «نعم.. المثقفون يشاركون في كتابة الدستور، لكن أي مثقفين نقصد؟ مؤكدا أنه أيا كانت الصورة أو التمثيل الذي حدث به الأمر، فهذا أمر جيد، حتى لو كان تمثيل المثقف ينحدر من أضعف حلقاته عبر مؤسسات مدجنة تاريخيا، أو عبر وضع اثنين من المبدعين على رأس تمثيل فئوي أحدهما يمثل النوبة والثاني يمثل بدو سيناء، لكنه في كل الأحوال أمر طيب. لذلك علينا أن نتشبث بحكمة الفقه العربي: ما لا يدرك كله لا يترك كله».

ويتابع صاحب ديوان «لعنات مشرقية» بقوله: «سنحسن النية طبعا بأسس الاختيار ومرجعياته، لكنني أتصور أن جوهر السؤال يحتاج إجابة قاطعة لن يلبيها النص الدستوري، ستلبيها طبيعة النظام السياسي والحقيقة الثورية التي غابت عن المثقف المصري طيلة أكثر من أربعين عاما لعب فيها دورا مشينا، كإحدى الأدوات التبريرية لخطاب سياسي قرين لفاشية لم تتراجع عن إشاعة مناخات الفساد والتواطؤ، فسقطت صورة المثقف كممثل أعلى للحقيقة وتحول إلى واحد من كبار مزيفيها.. صورة المثقف إذن يعاد النظر فيها، وإن كان ذلك يجري عبر وجوه لا تملك، في الأغلب جدارة التمثيل، لكنها خطوة سيجري الثناء عليها من أناس طيبين وحسني النية، لا يرون الماضي على هذا السخف الذي نراه».

ويلتقط قرني صورة المثقف من ركام هذه الظلال ويقول: «ربما كانت صورة المثقف خلال العامين الماضيين من عمر الثورة تضمن الكثير من المصداقية لهذا الرأي المفرط في تشاؤمه. ففي الوقت الذي استمع فيه المجتمع لمئات بل آلاف الأصوات، بينهم قلة من الساسة المحترفين وأكثرية من الدجالين والحواة، لم يكن صوت المثقف أكثر من ترجيع بعيد لأصوات أعلى، وسط صفير الميادين وزئير شعب اكتوى بأكاذيب واسعة الانتشار. وهنا جرى اختصار المثقف في حناجر شعرية كانت تكتب أشعارا عن ثورة عابرة للقومية، بأدوات شعرية قادمة من زمن ما قبل الهجرة. غير أن المستقبل، رغم ذلك يبدو مدعاة للتفاؤل، ليس لأن المثقف التبريري سيقلع عن وظيفته، وليس لأن النظام السياسي سيقلع عن محاولات التدجين وشراء الذمم، لكن لأن المجال العام المزكوم بالفساد طيلة أربعين سنة أو يزيد، لم يعد له من ظهير يسانده، لأن الآلة الجهنمية التي كانت تنفخ في روحه لم تعد صالحة لأداء نفس أدوارها القديمة.

وبصراحة أبعد يقول الشاعر محمد الحمامصي رئيس سلسلة كتاب الأطفال في مؤسسة «دار الهلال» الصحافية: «لا يمكن وضع المثقفين المصريين جميعهم في سلة واحدة، فمنهم من كان ضد 25 يناير، ومنهم من كان ضد 30 يونيو، ولا يزالون حتى اللحظة منقسمين على بعضهم البعض فيما يتعلق بأفكار ورؤى الثورة ومجريات الأمور على الساحة السياسية، وبوضوح شديد دعني أقل لك إن وعي المثقفين بالثورة ومجرياتها كان مترديا وباهتا وبائسا، قلة منهم من ناصروها ووعوا بأهدافها ومطالبها والمخاطر التي أحدقت بها في المراحل المختلفة انتهاء بـ30 يونيو، وهو الأمر الذي كشف حجم الهوة الواسعة في الوعي والنضج الثقافيين، وأكد الانفصال بينهم وبين الإرادة الشعبية ومطالبها وأحلامها وطموحاتها، وحجم التعالي والكبر والنزق الذي يتعاملون به».

يستدرك الحمامصي: «لكن الأمر الصادم أن تجد بينهم بعد 30 يونيو من تحالفوا مع جماعات وتنظيمات اليمين المتطرف، وهاجموا الإرادة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الإخواني محمد مرسي وجماعته وحلفائهما، ولا يزالون يواصلون الدس ضد ثورة 30 يونيو والوقيعة بين الشعب والجيش والرئاسة والحكومة».

ويخلص الحمامصي قائلا: «إن اختيار عدد من المثقفين في لجنة الخمسين أمر جيد وجاء من منطلق وطني، لكنه لا يعتبر مؤشرا على مشاركة المثقفين في صنع الثورة أو التحامهم بالشعب واختيارهم لإرادته أو أنهم يشكلون ورقة مهمة في المعادلة السياسية، بل يؤشر إلى قيادة السياسي للثقافي ووعي السياسي بأهمية دور الثقافة والمثقفين التنويري في صياغة مستقبل مصر».