«سوق عكاظ».. الشعر يبقى!

ميرزا الخويلدي

TT

في جادة سوق «عكاظ»، الذي دبت فيه الحياة بعد سبات طويل، يمكن أن يشم الزائر رحيق عمالقة الشعر العربي القديم الذين مروا من هناك، أمثال النابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وامرئ القيس، وطرفة بن العبد، والخنساء. عظماء تحولوا إلى شاهد على عبقرية الكلمة وخلودها، وأهمية الشعر والحكمة، وخطورة الرأي الذي هو «قبل شجاعة الشجعان» كما يقول المتنبي.

رجال اتصف بعضهم بالبطولة والفروسية والشجاعة، كما اتصف آخرون بالسكر والمجون والعربدة، لكن الشعر والكلمة منحا كل واحد منهم الخلود، فلا السيوف بقيت، ولا أباريق الشراب حافظت على نشوتها. وحده الشعر ظل منتصبا، يمنح أصحابه عمرا ممتدا ومتجددا رغم السنين.

كان «عكاظ» في عرف العرب الذين ابتكروه قبل سبعين عاما من الهجرة وعلى مدى قرنين من الزمان أكثر من مجرد مناسبة للمبارزة الشعرية، والتفاخر بالأنساب والبطولات، فقد مثل ملتقى سنويا لإنشاد الشعر والتعريف بالنوابغ الأدبية ووضع موازين للقوافي ومعايير للأدب الرفيع، حيث ينتخب منه أفضل القصائد لتصبح من المعلقات، ويتم فيه إجازة الشعراء والاعتراف لهم بالسبق، فقد كانت تضرب للنابغة الذبياني، مثلا، قبة حمراء من أدم، فيأتيه الشعراء ليعرضوا عليه أشعارهم.

كما مثل السوق موسما لاستعراض مواهب القبائل العربية في الحكمة والتقاضي. وكان «عكاظ» درة التاج ضمن ثلاثة أسواق عرفها العرب في الجاهلية: «عكاظ»، و«مجنة»، و«ذي المجاز».

وبعد غفوة طويلة، امتدت لنحو 1300 سنة، نهض سوق عكاظ في نفس موقعه التاريخي في العرفاء شمال شرقي مدينة الطائف، حاملا إرادة التجديد، وهو لا يكتفي بربط الماضي بالحاضر، بل يفتح نافذة واسعة تطل نحو المستقبل وآماله وطموحاته، واضعا من الحوار أساسا، ويسعى لخلق فضاءات حرة أمام المثقفين للتعبير عن تطلعاتهم وآمالهم.

شخصية العام الماضي كانت «عنترة بن شداد»، الفارس الشاعر النبيل، الذي مثلت سيرته جانبا من الصراع ضد «العنصرية». أما شخصية هذا العام فكان الشاعر العربي ميمون بن قيس الملقب بـ«الأعشى»، وهو الشاعر الذي كان أحد ألمع الوجوه الشعرية في سوق عكاظ قبل وفاته عام 629 ميلادية. وقد تحدر هذا الشاعر من قرية «منفوحة» التي أضحت اليوم من أحياء العاصمة السعودية الرياض. واشتهر الأعشى بلقب «صناجة العرب» لكثرة مراودته مجالس الشرب والطرب، ولما يتضمنه شعره من موسيقى الغزل والتغني بالمرأة والخمر.

اليوم، يمثل سوق عكاظ ملتقى للثقافة السعودية، ويمكن أن يعبر بها نحو العالم، وهو يؤكد الحاجة لإعادة اكتشاف الأماكن والمواقع والشخصيات التاريخية والأدبية التي عاشت في الجزيرة العربية ومثلت علامة فارقة على هامة الإبداع العربي، حيث تحفل الجغرافيا السعودية بالكثير من المواقع التي احتضنت الذاكرة العربية، تاريخا وتراثا وشعرا، مثل ديار حاتم الطائي في حائل، وأطلال «خولة» التي طالما تغنى بها طرفة بن العبد في نجد، ومرابع عنترة بن شداد في القصيم، وذكريات ابن المقرب العيوني في الأحساء.. وغيرها من الأماكن التي يمكن أن تمثل ذاكرة نابضة بالتاريخ والأدب وشاهدا على أصالة الإنسان وتجذره.