الحج موسم ثقافي

ميرزا الخويلدي

TT

موسم الحج ليس كغيره من المواسم، فعبر الزمان كان المسلمون من شتى أنحاء المعمورة يقصدون الديار المقدسة رغم أهوال الطريق ووعثاء السفر، يغمرهم شوق لا حدود له للمكان وللزمان، واستعداد لتذويب كل الفروقات الطبقية والعنصرية، والتماهي في مفهوم المساواة، ولذلك فموسم الحج هو موسم ثقافي بامتياز.

وفي موسم الحج يفد المسلمون من كل الأجناس والأعراق واللغات والثقافات والمستويات الاجتماعية، يندمجون في أعمال مشتركة تتلاحم فيها أجسادهم، ويجتمعون على صعيد واحد، ويؤدون مناسك في وقت وزمان واحد، ولذلك فبالنسبة للحجاج تعتبر هذه التجربة ملهمة روحيا ووجدانيا وعاطفيا.

وكما يحدث الحج تأثيرا عميقا في نفوس الملايين الذين يؤدون الفريضة، فإنه يحدث تأثيرا أكبر في المجتمع الذي يحتضن الحجاج ويقوم على خدمتهم، فهناك مجتمع كامل تقوم مهنه وصناعاته وحرفه وموروثاته وتقاليده وأساطيره ومروياته الشعبية على موسم الحج وما يتداوله من حكايات الحج، وبفضل الهجرات صار هناك تلاقح فكري واجتماعي مع بيئات استوطنت الحجاز بعد أن وفدت إليه في موسم الحج، وأصبح المكان نابضا بالتعددية في الثقافات والهويات وحتى في أصناف الطعام وعادات المجتمع وتقاليده وأنسابه وسماته..

هذا الثراء الكبير الذي أنتجه الحج ظل يتكاثر سنة بعد أخرى، ويمكننا أن نرصده ونشاهد أثره الاجتماعي والثقافي في البيئة الحجازية، بل تعدى ذلك لبيئات أخرى نشأت حضاراتها في طريق الحج، أو اشتغلت في مهن تتعلق بخدمة الحجاج، لكننا نفتقد أثر ذلك على المنجز الأدبي والثقافي السعودي عامة، وأدب منطقة الحجاز خاصة.

لم يبرز أدب الحج في الأعمال الروائية السعودية إلا بشكل قليل ونادر، ولم يبرز في الأعمال السردية عموما إلا بنسبة قليلة، على الرغم من ظهوره في الأعمال الشعرية، وبروزه أكثر في أدب الرحلات. وهذا ليس متعلقا بالكتّاب السعوديين، بل هي ظاهرة عامة، حيث إن أغلب الكتابات التي تناولت الحج، أو الديار المقدسة، ولجت إلى هذا العالم الأخاذ عبر أدب الرحلات، سواء من قبل الرحالة العرب كابن بطوطة الذي بدأ رحلته الأولى من مدينة طنجة عام 725هـ / 1326م قاصدا مكة، ونقلته هذه الرحلة إلى عدد من البلدان والأمصار واستمرت 24 عاما. ومثل ابن بطوطة هناك ابن جبير الأندلسي، واليعقوبي، والطبري، والهمداني، والمسعودي، وكذلك الرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي دون الكثير من تقاليد الحج في مصر الفاطمية، وسجل معاناة الحجاج وحالات القحط والفقر الذي عانت منها منطقة الحجاز في عام 1045 للميلاد.

وكما فعل الرحالة العرب، فقد كتب المستشرقون والرحالة الغربيون الكثير من الكتب انطلاقا من تتبعهم رحلة الحج، أو قصدوا الديار المقدسة وسجلوا مشاهداتهم.. ولعل كتاب «الطريق إلى مكة» الذي كتبه الرحالة والمؤرخ النمساوي الذي بات يعرف باسم محمد أسد، أشهر تلك المؤلفات، كما برز أثر رحلة الحج في المسار الذي اختطه داعية الحقوق المدنية الأميركي مالكوم إكس، وبعده عالم الرياضيات الأميركي جفري لانج الذي اعتنق الإسلام وألف كتابا يظهر فيه أثر رحلة الحج على نفسيته، حمل عنوان: «الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أميركي اعتنق الإسلام».

وقد تناول كتاب سعوديون الحج من باب أدب الرحلات كذلك، أمثال العلامة حمد الجاسر الذي ألف كتابا بعنوان: «أشهر رحلات الحج»، وكتب عبد الله الحقيل كتاب «رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين»، وجمع الدكتور محمد الشريف كتب رحلات الحج، وغيرها.

كما ظهرت كتابات عربية مزجت بين وصف الرحلات والكتابات الأدبية الوجدانية، حيث ظهر الحج في أعمال أدباء عرب بارزين، أمثال الكاتب المصري محمد حسين هيكل، الذي ألف كتابه الشهير «في منزل الوحي»، واللبناني الأمير شكيب أرسلان، الذي وضع كتابا بعنوان: «الرحلة الحجازية المسماة: الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف»، والشاعر والروائي المصري إبراهيم عبد القادر المازني، الذي جمع ما دونه من رحلته للحج في كتاب حمل عنوان: «رحلة إلى الحجاز».

ليس مفهوما لماذا أغفل الأدباء (على قلتهم) أدب الحج في كتاباتهم، ولماذا لم يظهر أثر الحج ومجتمع الحج في الأعمال الأدبية إلا نادرا، لكن لو توجه الحجاج أنفسهم لتدوين تجاربهم، ويومياتهم وانطباعاتهم، ولو كانت هناك جهة تتولى تشجيعهم وجمع نتاجهم، ربما كنا حصلنا على ثروة أدبية ذات قيمة كبيرة.