الفرنسيون يبيعون ممتلكات متاحفهم

مقتنيات متحف واحد تكفي لتسديد ديون باريس

متحف اللوفر أكثر متاحف العالم زيارة بمساحة نحو 12 ألف متر مربع لتخزين مجموعاته بينما يعرض نحو 6 آلاف قطعة
TT

هل يحق للسلطات العمومية التصرف في كنوز المتاحف ومجموعاتها لأي سبب من الأسباب؟ هذا السؤال طرح نفسه بشدة في الولايات المتحدة الأميركية محدثا جدلا كبيرا في الأوساط الثقافية والسياسية.

المناسبة كارثة الإفلاس التي تعرضت لها مدينة «ديترويت» مركز صناعة السيارات المنتعش سابقا والمدينة الأميركية الأكثر إفلاسا اليوم (أكثر من 20 مليار دولار).

والمعضلة بدأت حين دعي مسؤولو هذه المدينة لتسديد ديونهم عن طريق التصرف في محتويات متحف «ديترويت إنستتيوت أوف آرت»، أو بالأحرى بيعها لتسديد ديون المدينة المتراكمة، علما بأن هذا المتحف يزخر بنحو 66 ألف قطعة فنية من بينها كنوز ثمينة لفنانين كبار أمثال بيكاسو، رامبراند، فان إيك، بروجييل، جياكوميتي، فان كوخ، رودان.

بعض اللوحات ذات القيمة الفنية العالية تحطم أرقاما قياسية في المزادات: مائة مليون يورو لـ«النافذة» للفنان ماتيس، ومثلها لـ«رقصة العروس» لبروجييل و150 مليونا لـ«أتوبورتريه» للفنان فان كوخ.

بيع محتويات هذا المتحف العريق قد يساهم في تسديد جزء هام من ديون مدينة «ديترويت» حسب موقع «ديتروي فري براس»، لكن القضية لا تزال رهن المحاكم بعد رفض إدارة المتحف بيع محتوياته على أساس أنها ملك للمواطنين وجرى الحصول عليها بفضل هبات خواص.

لكن ما حدث لمتحف «ديترويت إنستتيوت أوف آرت» أيقظ جدلا قديما في أوروبا، وتحديدا في فرنسا التي تشهد جدلا حول مسألة بيع المجموعات المكدسة في مخازن المتاحف لمساعدتها على تخطي أزماتها المادية واقتناء مجموعات جديدة.

* وما خفي أعظم..

المعلومة التي يجهلها الكثير هي أن ما يعرض لزوار المتاحف الفرنسية من تحف ومجموعات قديمة لا يمثل سوى 20 في المائة فقط من ممتلكات هذه المؤسسات الثقافية، أما الباقي فهو مكدس في مخازن كبيرة مملوءة بالقطع التي لا تعرض على العامة.

كل المتاحف الوطنية تملك مخازن هي عبارة عن مساحات شاسعة من الأمتار المربعة تكدس فيها جميع القطع الفنية والأثرية التي لا تعرض على الجمهور، إما لضيق المكان أو حفاظا عليها من أخطار التنقل والتحريك.

متحف اللوفر أكثر متاحف العالم زيارة يملك نحو 12 ألف متر مربع لتخزين مجموعاته، بينما يعرض نحو 35 ألف قطعة. متحف فنون الديكور 6 آلاف متر مربع من المخازن، متحف غالييرا لتاريخ الأزياء 4 آلاف متر مربع، متحف الفنون المعاصرة 15 ألف متر مربع. مؤسسات أخرى تعتبر «مغارات علي بابا» حقيقية تزخر بكنوز مكدسة من التراث الفني والثقافي: المكتبة الوطنية الفرنسية تحفظ في سراديبها نحو 14 مليون كتاب ومخطوطة، 360 ألف دورية، 800 ألف خريطة، ونحو 8 ملايين صورة قديمة. أما المركز الوطني للفنون البلاستيكية فهو يحفظ ثلث ممتلكاته (30 ألفا) في الأقبية والطوابق السفلية.

وجود هذه القطع في المخازن لا يعود فقط لضيق المكان، فهي كثيرا ما تحفظ بعيدا عن أنظار الزوار لحمايتها من التلف، كالتماثيل واللوحات القديمة التي لا تحتمل كثرة التنقل والتحريك. مجموعة متحف اللوفر الخاصة بالفنون التصويرية المكونة من 140 ألف قطعة مثلا لا تخرج من مخازن المتحف أكثر من شهرين كل سنتين لحمايتها من الضوء الذي قد يحرقها، الشيء نفسه بالنسبة للمركز الوطني للفنون البلاستيكية الذي يملك مجموعة قيمة من 9000 صورة قديمة لا تخرج إلا مرة في السنة، علما بأن حجم بعض القطع الفنية لا يسمح بعرضها، كما هو الوضع مع مجموعة مركز «بومبيدو» للفن التشكيلي المعاصر المسماة «إكسترا لارج» التي يصل فيها طول القطعة لمترين وأكثر. تقول «فراسواز كاشان» المديرة السابقة لمتحف «أورسي»: «مهمة المتاحف ليست فقط عرض المجموعات الفنية، وإنما أيضا الحفاظ عليها وصيانتها وتمكين الباحثين من دراستها والبحث فيها». ولهذا نرى معظم هذه الأماكن وهي مهيأة لاستقبال المجموعات الأثرية في أحسن الظروف مراعية توفر درجات حرارة ورطوبة ونسب إضاءة وتغليف مناسبة لكل قطعة. وهي لا تفتح أبوابها للجمهور إلا في حالات استثنائية ولأعداد محدودة من الزوار: في أيام التراث الأوروبي مثلا (15 و16 سبتمبر - أيلول) أو لبعض الطلبة والباحثين فقط، ورغم أهمية هذه المخازن فإن كثيرا من الخبراء أصبحوا يرون أنها أصبحت تشكل عبئا ثقيلا على المؤسسات المتحفية لأنها تكلفها أموالا كثيرة.

* لماذا لا تباع محتويات المخازن؟

المعهد الفرنسي للبحث في الإدارات والسياسات العامة (إيفراب) نشر أخيرا تقريرا مهما خلص فيه إلى وجود فائض كبير من القطع واللوحات الفنية لدى المؤسسات المتحفية. معهد «إيفراب» خص بالدراسة متاحف الفن المعاصر وأحصى نحو 164 ألف قطعة لم تعرض ولا مرة على الجمهور، لكن الوضع نفسه تشهده معظم المتاحف الأخرى. المعهد أوصى ببيع فائض هذه المتاحف لتسوية مشاكلها المادية، لكن المسألة تبدو أكثر تعقيدا، هذا أن القانون الفرنسي يتعامل مع هذا الموضوع بكثير من الصرامة والحزم، فالمادة 451 - 5 من قانون التراث الخاص بالمتاحف تنص على أن «ممتلكات المتاحف الوطنية تابعة للمال العام ولا يمكن التصرف فيها بأي حال من الأحوال»، مستعملة عبارة «إناليانابل» inaliénable التي تعني حرفيا «ممنوعة من كل أشكال التصرف» (بيع، شراء، إهداء، تأجير) وهو مبدأ معمول به في فرنسا منذ عهد فرنسوا الأول، أي منذ القرن السادس عشر. الاستثناء الوحيد في القانون يخص القطع التي قبلت فرنسا إرجاعها لمواطنها الأصلية، وقد جرى تعديل القانون للسماح بخروجها من المتاحف منذ 2002، إلا أن ذلك يبقى خاضعا لما يسمى إجراءات «إلغاء التصنيف»، وهي إجراءات غالبا ما تكون طويلة ومعقدة، كعملية استرداد نيوزيلندا للرؤوس المحنطة لقبيلة «ماؤورييه» المعروضة في متحف مدينة روان والتي استلزمت جلستين برلمانيتين وتقريرا من 300 صفحة وعشرين عاما من الإجراءات القضائية في المحاكم الفرنسية.

* متحف «أورسي» لتسديد ديون باريس..

مقارنة بباقي الدول الأوروبية فإن موضوع بيع محتويات المتاحف الوطنية يبدو أكثر بساطة: ألمانيا، الدنمارك، بريطانيا وهولندا كلها تسمح بالبيع بشرط أن تكون القطع غير معروضة، وأن تستعمل عائدات بيعها في اقتناء قطع جديدة ذات قيمة فنية وتاريخية. تجاوز هذه الخطوط قد يكلف المؤسسات المتحفية بعض العقوبات. كمتحف ضاحية «بوري» قرب مانشستر الذي خسر ترخيصه بعدما قام ببيع لوحة للفنان التشكيلي لورانس ستيفان لوري لتسديد ديونه. ومتحف مدينة «لاهاي» الذي تلقى توبيخا من مكتب الملك لـ«خرق المصلحة العامة» بعد شروعه في بيع لوحتين للفنان بيكاسو ومونيه.

في الولايات المتحدة «دياكسيسونينغ» deaccessioning (المضاد للتعبير الفرنسي إنالينابيلتيه) وهو الإجراء القانوني الذي يسمح للمؤسسات المتحفية ببيع محتوياتها لا يحدد نوعية القطع المؤهلة للبيع، لكنه يحبذ أن تستعمل عائدات البيع في شراء قطع أخرى. وإذا كانت السلطات السياسية لا تملك حق التدخل في إدارة المتاحف الأميركية فإن الوضع معكوس تماما في فرنسا، حتى إن باب السجال في هذا الموضوع يكاد يكون محظورا حسب تعبير «غيوم شيروتي» مدير الحالي لمزاد «سوتيبيز فرانس» الذي يصرح على صفحات مجلة «لو بوان»: «منذ مدة وأنا أناضل من أجل فتح النقاش في هذا الموضوع، القانون يجب أن يتغير لتمكين المتاحف الوطنية من بيع بعض مجموعاتها لا لتسديد فواتير ولكن لاقتناء مجموعات أخرى جديدة، كما تفعل المتاحف الأميركية كمتحف نيويورك للفن الحديث (موزيوم أوف مودرن آرت). المفروض أن نعطي للمتاحف الفرنسية الفرصة لتسيير شؤونها بحيوية أكبر دون أن نفرط في تراثها...».

المدير الحالي لمزاد «سوتيبيز فرانس» يعبر عن رأي زملائه من الخبراء الذين اقتنعوا بفكرة البيع من أجل شراء أحسن، وبأن ممتلكات المتاحف ليست بالعدد وإنما بالنوعية. لكن بعضهم ذهب لأبعد من ذلك، فخبير الفن التشكيلي «ميشال ماكي» مثلا صرح على صفحات مجلة «لكسبرس»: «إذا كانت ديون مدينة (ديتروي) الأميركية قد تسدد ببيع مقتنيات أهم متاحفها فإن متحفا واحدا فقط في باريس كمتحف (أورسي) يكفي لتسديد ديون العاصمة الفرنسية (4 مليارات يورو مع مطلع عام 2014) بما أن بيع محتوياته قد يجلب لبلدية باريس 10 مليارات يورو».

على أن المعارضين لهذه الفكرة أكثر، «ألان سيبان» مدير مركز جورج بومبيدو يرى أن محتويات المتاحف ليست للعرض فقط، كلها ذات قيمة لكن بعضها يهم سوق الفن وبعضها يهم الباحثين والمؤرخين وهواة العلم والمعرفة، ويضيف: «محتويات المتاحف ليست تحفا فنية فحسب، بل هي أيضا مرآة تعكس تاريخ الفن المعاصر والقديم ولا قيمة لها إلا وهي كاملة». أما النائب جاك ريغو فهو يقترح أن تعرض محتويات المتاحف بالتداول حتى يتمكن الجمهور من مشاهدتها كلها، وأن تلجأ المتاحف للمعارض الخارجية ولإعارة القطع لمؤسسات أخرى وتحديث مخازنها.