ثقافة الغراب

ميرزا الخويلدي

TT

الخرافة وحدها جعلت طائرا ذكيا كالغراب محل اتهام بالبشاعة وإثارة التشاؤم. ربما لأنه أسود، والعنصرية داء كامن في النفوس، وربما لأنه لم يمتلك صوتا جميلا يسوقه لمسابقات النجوم. وامتلك عقلا راجحا سخره لتعليم الإنسان الأول كيف يواري سوءة أخيه، حين أراق أول دم على ظهر البسيطة.

منذ ذلك الوقت بقي الغراب منبوذا تلاحقه اللعنة بأنه نذير شؤم ونكد. وهو المسكين الذي لا يملك قناة فضائية واحدة كتلك التي تخرج لنا كل يوم متحدثين ينشرون البؤس والتشاؤم والإحباط في محيطنا.

اليوم، هناك «استمراء» للحزن والكآبة، وهناك من لا شغل لهم إلا ترويج هذه الممنوعات في وسطنا: فالعالم كله كئيب، وشر مستطير، والموت والحياة سيان. وإذا تساوى الوجود والعدم فقدت الحياة قيمتها.

لا أحد ينكر أن هناك مآسي تحيط بنا، وهي وحدها كافية لتفعل أفاعيلها، وليست بحاجة إلى من يغرس نصالها أكثر في قلوبنا، أو ينشر بؤسها أوسع في فضائنا.

هناك من يكسر إرادتنا عبر تعميم ثقافة التشاؤم والإحباط وانسداد الأفق وقلة الحيلة، وصولا إلى غرض واحد وهو: الانتحار..! نعم، هناك من يريد لهذه الشعوب أن تنتحر وتختار الموت، وهو سيتولى تصميم الجنازة وإخراج المشهد: تارة باسم الجهاد، وأخرى باسم الشهادة، وثالثة باسم النصرة.. المهم أن يشعر كل شاب أن مستقبله مسدود، وأن كل ما حوله فاسد، وأن الأفق مغلق، وحده الموت قادر على إنعاشه مما هو فيه.

إننا نشاهد هذا التوأم السيامي الذي يأبى الانفصال، بين خطاب بائس يصور كل ما لدينا خرابا، وأن من حولنا متآمرون، وارتفاع وتيرة التطرف والإرهاب وفساد التعايش الوطني في كل مكان.

خطورة هذه الثقافة أنها تسد باب الأمل، وتقفل مجاري الإصلاح، وتدفع الناس لأن يخربوا ديارهم بأيديهم. هي ثقافة فتاكة تدفع للاحتراب والتقاتل وليس للتعايش والبناء. ماذا يتبقى من طموح لشاب يرى النجاة في الموت، ولا يرى قيمة للحياة التي أمر بعمارتها؟

وخطورة هذه الثقافة أنها تعمق الإحساس بالظلم والاستضعاف والعدمية، ومعها يتعمق الانفصال بين الحقيقة والشعور. هي أيضا خطرة لأنها تخلق أوهاما عن أعداء مصطنعين لا وجود لهم.

إذا اتفقنا على أن ثقافة الإحباط توهن من تماسك المجتمعات وتهدد استقرارها، فإن علينا أن نعالج أسباب الإحباط ونوقف محركاته. وفي الحد الأدنى الامتناع نهائيا عن تضخيم المآسي والأخطاء بشكل يقود حتما إلى إشاعة هذه الثقافة وتعميمها.

ليس مطلوبا أن يتكاذب الناس بعضهم على بعض، ويصطنعون الأمل. هم فقط بحاجة إلى أن لا يفقدوا الأمل، ولا يزرعوا مكانه الإحباط والفشل، وهم بحاجة أكثر إلى خلق فضاءات حرة تتيح لهم التفكير الإيجابي لإيجاد مخارج من كل عتمة، وكوة في كل جدار مسدود.

وعلى رأي «إيليا أبو ماضي»:

قال السماء كئيبة! وتجهَّما

قلت: ابتسمْ، يكفي التجهم في السما!