رسائل حب عبر «الشرق الأوسط» إلى نجيب محفوظ

TT

* نادية لطفي: عيد للثقافة العربية

* عيد ميلادك يا أستاذ نجيب عيد لنا جميعاً وكل عيد ميلاد تحتفل به يزيدنا متعة وثقافة ورحابة فكرة، أنت صاحب فضل كبير علينا جميعاً، على أجيالنا، السابقة، واللاحقة، وعيد ميلادك عيد للثقافة المصرية والعربية، أما عن ذكرياتي مع أفلامك التي مثلتها عن رواياتك فلا داعي للحديث عنها حتى لا أخدش تحيتي لك، أريد فقط أن أعبر عن مشاعري وتقديري لك يا كاتبنا الكبير.

* صبري موسى: العظة في الانضباط

* ياعمنا الكبير.. ليست عظمتك فقط في ذلك الابداع الروائي والقصصي الذي أنشأت به تراثاً للرؤية العربية وأرسيت به قواعد نموها وتطورها، انما تتمثل تلك العظمة أيضاً في ذلك الانضباط الملتزم الذي أمسكت به نواصي بشريتك، وذلك الحس الأخلاقي العذب الذي أحطت به وجودنا حولك، والذي نأمل أن يكون قدوة لمن يشتغلون بالأدب والفن. فليعطنا الله القدرة على أن نحذو حذوك.. يا عمنا الكبير لقد تجاوزت أنت الزمن بينما الكثيرون حولك قد تجاوزهم الزمان. فقر عينا، فانت دائماً بيننا وأمامنا، متعك الله بالصحة والرضا.

* سعيد الكفراوي: باب مفتوح

* أوائل الستينيات تقريباً كنت قد انتهيت من قراءة رواية «الطريق»، وكانت حيرة صابر سيد الرحيمي تبدو لي ذلك الحين سيرة كونية، حيرة تدفعها نوازع الخير والشر وكانت رواية «الطريق» تدفع باغراءات جديدة الى نفسي، وتكشف لي أولاً عن عزاء الحلم بكتابة جديدة واستثنائية، وثانياً عن معنى أن الرواية فضاء يتشابك فيه الحلم بالمخيلة كشف حقيقة الحياة الجوهرية. عذبتني رواية «الطريق» في هذا الزمن السحيق من العمر، وكنت حين اذن قد تعرفت على الكاتب الراحل محمد عبد الحليم عبد الله، أكثر الكتاب رقة وأعذبهم رومانتيكية. وحينما زرته في المجمع اللغوي طلبت منه أن أرى نجيب محفوظ، اتصل به الراحل فرحب نجيب محفوظ بي، وحين دخلت عليه، وكنت صغيراً وبائساً وأنتمي لهؤلاء الكتاب الذين يجيئون من الريف على وجل، ويحملون ذلك الخجل القروي المضطرب بالمخاوف وتهديد الآخر ابن المدينة لهم.. حين رآني نهض واقفاً وقال لي أهلاً يا كفراوي، أخذتني الدهشة والفرح عندما سمعت اسمي، جلست قبالته. كان يرأس مؤسسة السينما في ذلك الحين، سألني عن نفسي، وعما أكتب، وفي أي الأماكن أنشر، ثم تكلمت عن «الطريق»، وبانبهار أخذت أقص عن الرواية أحسن القصص بوعي ذلك الفتى القروي القادم من قلب الدلتا، تكلمت عنها باعتبارها فناً جديداً يحمل رسالة حاسمة تعري الواقع وتدميه، وتكشف عن تعقد حياتنا، كان يطأطئ رأسه، وينفث دخان سيجارته، وأشعر به يتواضع ثم ينظر ناحيتي بخجل أفزعني، ثم وجدته يهمس لي: والله أنا فرحان اذا كانت الرواية قد أوصلت لك كل هذه المعاني. أدركت في هذه اللحظة من ذلك الوقت البعيد أن باب نجيب محفوظ مفتوح، وأن العالم يخفق خلف هذا الباب. وأن هذا الجالس أمامي الآن بكل هذا التواضع المرعب وبهذه الروح القادرة على النفاذ لأبعد نقطة داخلك سوف يكون في قادم الأيام أرض المرج التي سوف تسعنا، وضوء الفجر الذي سوف ينير طريقنا، والسكة التي سوف نسلكها معبدة لنصل على نحو من الانحاء الى ما نريد.

* علاء الديب: أهمية وضرورة الكتابة

* ليس في مولدك فقط، بل أذكرك كل يوم كلما جرت في العروق أشواق الكتابة. أقصدك فتحضرني. دائماً في شبابك مشمراً عن ساعديك تكدح في دنيا الكتابة. يحضرني معك الجد.

والأمانة، وتلك القداسة التي تحيط بها عملك. الشوق متجدد للقياك: في الثلاثية، في الحرافيش، وفي جلال أصداء السيرة الذاتية. كل هذا الحضور العذب يجعل في الجنون والعبث الذي نعيشه بعضاً من المذاق، وبعضاً من المعنى، ويحيي في النفس أهمية وضرورة الكتابة. سلمت لنا ودمت.

* إبراهيم عبد المجيد: وضعت مصر على الخارطة العالمية

* نجيب محفوظ هو الرجل الذي تتلخص فيه الأمة العربية، وبعيداً عن الأدب فنجيب محفوظ هو الذي أخذ بهذه الأمة ووضعها على الخريطة العالمية أكثر مما فعله أي سياسي عظيم، والعالم كله الآن لا يعرف عن مصر الا الحقبة الفرعونية، ونجيب محفوظ. فكأن نجيب محفوظ بل هو كذلك فعلاً عصر كامل، سيظل محفوراً في التاريخ المصري والعالمي، هذا على الاجمال، وبشيء من التفصيل فلقد ضرب محفوظ المثل المصري العظيم في صنع النهضة والحضارة بدأب وصبر يوماً بيوم وساعة بساعة، كما كان المصري القديم يفعل دائماً، هذا هو ما فعله في الأدب بالضبط، لقد أقام لنا صرحاً أدبياً لا يقل عن الأهرامات، ويتميز عنها بأنه يذهب الى الناس في كل مكان وبكل لغة، انه رجل حكيم يعرف قيمة الزمن. ان حكمة المصريين جاءت من معرفة قيمة الزمن ولذلك لن يغادر أبداً منطقة الخلود منذ أول كتاب كتبه ومنذ الكتاب الغريب والوحيد الذي ترجمه عن مصر القديمة ولأنه من البداية لم يغادر منطقة الخلود لم يشغل نفسه بصغائر الأمور، انه باحث دائب عن الجواهر، أخذ من مصر دائماً أجمل خواصها فكما امتصت مصر كل الغزاة وأذابتهم فيها وعجنتهم بحضارتها امتص محفوظ كل ثقافات العالم وخبرات الدنيا التي اتيحت له وقطرها في معمله الخاص، معمل الخلود، وأنا على المستوى الشخصي مدين لنجيب محفوظ بالكثير فهو الذي اشعل في روحي حب الرواية منذ قرأت له «كفاح طيبة» وأنا في الثالثة عشرة من عمري وعندما قرأت له «زقاق المدق» بعد ذلك بسنتين ثم «الثلاثية» ثم «خان الخليلي» هربت من الاسكندرية وجئت الى القاهرة أمشي في حي الجمالية أبحث عن أبطال نجيب محفوظ وأبحث أيضاً عن عمل. لقد قررت أن أترك الدراسة وأعيش في القاهرة الا أنني لم أستطع. كنت صغيراً جداً على ذلك، مؤلماً جداً لاسرتي التي قلبت الدنيا عليَّ ولا تعرف أين ذهبت وعدت مصمماً أن أفتح الرواية في روحي، كانت قد انفتحت بالفعل، منذ ذلك اليوم، وأنا أجري في الهواء خلف هذا الفن العظيم الذي كان مستهجنا قبل نجيب محفوظ، كان مستهجناً لدرجة أن كاتباً مثل حسين هيكل لم يستطع أن يضع اسمه على الرواية زينب، نجيب هو الذي أعطى هذا الفن القيم والاعتبار في مصر والعالم العربي، والردة التي نشاهدها الآن والتي نفسها حاولت اغتيال نجيب محفوظ لم تستطع أبداً أن تزيل هذا الانحياز العبقري لنجيب محفوظ لأن انجاز الأمة المصرية في شخص واحد ولأن انجاز نجيب وغيره ممن جاءوا بعده من الكتاب سوف يستطيع أن يمتص ويذيب ويمحو هذه الغارات الركيكة والتافهة على الأدب عامة وعلى الرواية خاصة. لقد كان من حسن الطالع لى أنني مولود في نفس البرج في نفس شهر ديسمبر (كانون الأول) المولود فيه نجيب محفوظ، في نفس برج القوس المشدود الذي يعرف هدفه ولا يتراجع عنه ولقد فتنت به الى درجة أنني كرست نفسي لدراسة الفلسفة في الجامعة كما فعل هو بالضبط وبعد ذلك أعددت رسالة عن علم الجمال كما فعل هو بالضبط من جامعة الاسكندرية ولم أكمل الرسالة كما فعل هو بالضبط وتركت الاسكندرية بحثاً عما هو في شوارعها وفي هوائها. انني لم أقابله كثيراً لأنني حتى هذه اللحظة رغم أنني أعرف مقدار محبته لي الا أنني حتى هذه اللحظة أخجل أمامه. ليتني أملك أكثر مما يقال في هذه المناسبات أكثر من دعوتي له بالصحة والعافية وطول العمر. انه المظلة التي نستظل بها الآن في عالم يتراجع بشدة.

* محمد مستجاب: عذاب الكتابة

* ياعم نجيب، انني بالغ السعادة، لأنك ـ بكل الحب ـ نجحت في الوصول الى التسعين الأولى من عمرك المجيد، وأتمنى أن تكمل التسعين عاماً التالية لتزداد عذاباً في ما يقع لنا جميعاً بعد ذلك.

* حلمي سالم: عرفت مصر من رواياتك

* سيدي صاحب الريادتين: لن أهنك ببلوغك التسعين، وانما سأهنئ أنفسنا أن حبانا الله نعمة أن تعيش بيننا ومعنا ولنا هذا العمر الذي أمتعتنا فيه بابداعك الجميل وحضورك الشخصي الأصيل. لن أتحدث عما يحتوي أدبك من قيم جمالية وفكرية وانسانية، فهذا عمل النقاد المتخصصين، ولست منهم. لكنني سأعترف لك أنني، في بداية تكويني الثقافي، عرفت مصر الحديثة من رواياتك، أكثر مما عرفته من كتب التاريخ ورصد المؤرخين. وسأعترف لك أنني رأيت نفسي في كمال عبد الجواد، مثلما كنت ترى نفسك فيه. وبذلك أكون شريكاً لك في هذه الشخصية القلقة الخصبة الحائرة. وسأزعم ـ نيابة عنك ـ أنك مؤسس بارز من مؤسسي «قصيدة النثر» العربية المعاصرة. ودليلي على ذلك هو القطع والمقطوعات المكثفة المرهفة الحارة في «اللص والكلاب» وفي «أصداء السيرة الذاتية» وليعجب من يعجب: كيف تصوغ حكاية مجرم ـ بما فيها من سرقة وبوليس وقتل ـ برائحة الشعر؟ وليعجب من يعجب: كيف تنضح سيرة حياة ـ بما فيها من وقائع وشخوص وحوادث ـ بندى الشعر؟ لن أتحدث عن أدبك، فهذا عمل النقاد المتخصصين، ولست منهم، لكنني سأتحدث عن «خفة الظل» المصرية، التي اشعتها في هواء مصر عبر أدبك وشخصك على السواء. وأذكرك برد السيد أحمد عبد الجواد حينما سأله صديقه «أنت وقعت أم الهوى رماك؟» فقال: «رماني الهوى فوقعت». وأذكرك بزيارة رئيس الوزراء الإسباني لك، حينما قال انه قرأ رواياتك كلها مترجمة للإسبانية، فبادرته: «تلاقيك تعرف اسباني زي اللبلب». خفة الظل صناعة مصرية. فأنت اذن منتج (بفتح التاء) مصري صاف، لا مجرد «تقفيل مصري» وخفة الظل بنت الحرافيش، ولذلك كان طبيعياً أن تكون شلة «الحرافيش»، وأن تكتب رواية «الحرافيش»، وأن تعيش حياة الحرافيش، وأن تحصد حب جميع «الحرافيش» بمن فيهم أولئك الذين رأوا يوماً أنك كاتب البرجوازية الصغيرة، وأن تتلقى حقد كارهي «الحرفشة» عبر مطواة في رقبتك ذات العروق النحيلة النافرة. أما الريادتان اللتان أقصدهما فليستا ريادتين أدبيتين (فهذا قصد النقاد المتخصصين، ولست منهم)، بل أقصد ريادتين مختلفتين: الأولى هي ريادة «الآدمية» التي جعلتك تعترف (في كتاب رجاء النقاش) بألوان العبث والشقاوة التي مارستها في الشباب والرجولة، وهي الآدمية التي يحرص المبدعون على اخفائها حفاظاً على نقاوة المثال. والثانية هي ريادة «القهقهة» التي جعلت ضحكتك العالية المنطلقة علامة من علامات مصر. أيها الرجل الخفيف في التسعين: لا تحرمنا من قهقهتك العالية، حتى نظل مدركين أن مصر ما زالت مفتوحة العينين. سيدي صاحب الريادتين: الحمد لله أننا من أهل بلدك. سيدي الضاحك: دُمْ.

* محمد جبريل: أخطر كاتب مصري

* نجيب محفوظ كنز، اكتشفناه نحن، ولم ينبهنا اليه الأجانب. اكتشفه من قرأ له، وأعجب به، ووجد فيه مثلاً أعلى. القول بأن نجيب «عاش يكتب خمسين سنة، دون أن يكتشف أي ناقد في مصر أنه عملاق».. هذا القول مشكلة الكاتب الشخصية. مشكلته أنه قرأ نجيب محفوظ كما قرأ الآخرين، فلم تتوضح له الفوارق بين حجم الفنان نجيب محفوظ وأحكام الآخرين. أما نحن الذين قرأنا نجيب محفوظ جيداً، واستوعبناه جيداً، وتفهمناه جيداً، وعرفنا مدى خطورته وتأثيره وجدواه، واتخذناه مثلاً أعلى، ربما حتى في سلوكياتنا الشخصية، فاننا نزعم باكتشاف كنز نجيب محفوظ منذ «خان الخليلي» التي يمكن أن نؤرخ بصدورها بدء تطوير فن الرواية في بلادنا. والحق أننا لم نكن وحدنا الذين اكتشفنا محفوظ، اكتشفه مثقفون عرب وأجانب، ربما قبل أن نفعل نحن ذلك. جبرا ابراهيم جبرا ـ مثلاً ـ يقول «اكتشفت» ـ هذا هو نص التعبير ـ نجيب محفوظ وسني 17 سنة في مجلة «الرواية»، وكان محفوظ هو الذي جعلني أفكر في كتابة الرواية باللغة العربية. وكان محفوظ ـ ذات يوم ـ طفلاً صغيراً مشاكساً، يملأ شوارع العباسية مع أقرانه شقاوة وعفرتة. وكان من بين مظاهر تلك الشقاوة. قذف مبنى دير الدومينكان بالعباسية بالحجارة، حتى خرج لهم ـ ذات يوم ـ راهب طيب، وزع عليهم قطع الحلوى، فلم تعد شقاوة الصغار تصل الى سور الدير. ثم كبر نجيب محفوظ، وأصبح قيمة أدبية ممتازة، وكان رهبان الدير ـ الأب جاك جومييه تحديداً ـ أول من قدمه الى القارئ الأوروبي. واذا كانت الكوليج دي فرانس وجامعة باريس هما الجهة التي رشحت نجيب محفوظ ـ كما قيل ـ لجائزة نوبل، فان الملايين من قرائه رشحوه لما هو أكبر من الجائزة، لكن الترشيح الرسمي لجائزة ما، لم يكن في مقدورهم. ذلك واجب الهيئات الرسمية التي تقاعست عن أداء دورها، فتولت القيام به جامعة أجنبية. نجيب محفوظ لم يفز وحده بالجائزة. انما فزنا بها نحن أيضاً. من قرءوا له، وأحبوا أدبه. وأصارحك بأن في مقدمة ما اعتز به ـ ربما بدرجة مساوية لأعمالي الابداعية ـ اني كتبت عن نجيب محفوظ كثيراً. كانت أعماله وحواراته وأحاديثه وأخباره مادة ثابتة لي. أقرأ له، وأقرأ عنه، وأزوره في صفية حلمي وريش ومكتبه بمؤسسة دعم السينما، ثم في مكتبه بقصر عائشة فهمي، وقهوة عرابي، وأحاوره بالتليفون، وأكتب في كل ما كتب، وما كتب عنه من دراسات، وما صدر من كتب، وما حول الى دراما للاذاعة والتلفزيون والسينما. ولعلي أعترف أن كتابي «مصر في قصص كتابها المعاصرين» كان في بعض أبعاده تحريضاً بأن أعيد قراءة أعمال نجيب محفوظ في اطار منهجي. لا أكاد أجد ما أحدد به شخصية نجيب محفوظ الا بأنه «أخطر» كاتب مصري ـ أعني التعبير، ـ استطاع ببراعة مذهلة أن يعكس لنا أصداء الحياة في المجتمع المصري، بل ويحدد أبعاد هذه الحياة في كل اضافاته الى المكتبة العربية. يقول كونستانتين بادوستوفسكي: ان جوركي هو روسيا، وكما لا أستطيع أن أتخيل روسيا من غير نهرها الفولجا، فانني لا أستطيع أن أتخيل روسيا من غير كاتبها جوركي وأسمح لنفسي بأن أقول: ان نجيب محفوظ هو مصر، وكما لا أستطيع أن أتخيل مصر من غير نهر النيل، فانني لا أستطيع أن أتخيل مصر من غير كاتبها نجيب محفوظ.

* عدلي رزق الله: بك الحياة أجمل

* يكتب التاريخ بفضل أفراد وأسماء تتألق كالأقمار وسط نجوم لامعة. يصح هذا على الأدب مثلما يصح في التشكيل والموسيقى بل وسائر أنواع الفنون واذا كانت ريادة النحت قد دانت لمختار وريادة التصوير قد كانت لراغب عياد فان ريادة الرواية كانت لنجيب محفوظ، والملاحظ أن قامات تلك الريادات كانت شاهقة وسامقة، ولم يكن فضل الريادة فقط ما يذكره التاريخ لهم، بل وفضل الانجاز الكبير والتحقق الذي وصل الى حده الأقصى أحياناً. شكلت كتابات نجيب محفوظ لكل منا عالماً ثريا له عبقه الخاص، واذا نقبت في ذاكرتي الأدبية مرتحلاً الى بداياتي مع كتابات نجيب محفوظ لتذكرت فوراً احساسي الأول حين قرأت أول عمل وكان «بداية ونهاية» وجدت نفسي «منقوعاً» في المصرية وعالم نتنفسه حولنا بعبقه وروائحه وعرقه وتحققه وانكساراته، صعوده وهبوطه، عالم واقعي تقع الأخت فيه في الخطيئة، ويصبح الأخ الطيب أباً للجميع وهي حالة تكررت في العائلة المصرية كأنها قدر لا مفر منه، وأخ متسلق متطلع، المظهر حياته وبذلة الضابط الفخمة عدته، والأخ الأكبر في مستنقع الرذيلة والحشيش والغناء والرقص لكنه معطاء وكريم. عالم الأسرة المصرية والحارة الحقيقية. كانت تلك هي الصورة التي أزاحت من عالم قراءاتي السابقة عالم رومانسي مصقول لأمين يوسف غراب ويوسف السباعي، لكنها قربتني في ما بعد الى عالم يوسف الشاروني ثم يوسف ادريس ومحمود البدوي أيضاً. شخصيات نجيب محفوظ التي غارت واستكانت في أعماقي، والتي تطفو أحياناً على سطح الذاكرة لتؤنس وحدتي وتمتعني فنياً هي أولاً وبدون منازع شخصية «زيطة صانع العاهات». نموذج مصري للانسان الفنان عطا شخصية لا تتكرر تقترب من شخصية العجوز في أوليفرتويست لكنها تبتعد عنها بقدر مصريتها العارمة. شخصية «سي السيد» التي أصبحت على لسان كل مصري واقتربت في أن تكون مثلاً شعبياً لتسلط الرجل وازدواجيته، بل هي أصبحت بالفعل كذلك هل هناك حياة لشخصية في الأدب تداني تلك الشخصية التي أصبحت واقعاً معاشاً. أما الرواية التي توقفت عندها كثيراً في مسيرة نجيب محفوظ كانت رواية «السراب»، هذه الرواية تكاد أن تكون خروجاً عبقرياً على التزام نجيب محفوظ الصارم في أعماله، وهي الرواية التي عدت الى قراءتها أكثر من مرة. ذكرني غوص نجيب محفوظ في أعماق النفس ادغاله المظلمة بعالم ديستويفسكي الذي يجعلنا نرحل الى أدغال الداخل وبوحوشه وحيواناته البرية غير المستأنسة وغير المدركة أيضاً، ولا أعرف لماذا ظلت هذه الرواية وحيدة بين كل أعماله ولم تتكرر نكهتها ثانية في أعماله. وسيكون من نافلة القول أن أعرج على الثلاثية فالحديث هنا بديهي والعمل كلاسيكي على كل المستويات سواء بالنسبة لأعمال الكاتب، أو بالنسبة الى الكتابة المصرية. تبقى جملة صغيرة عن ايماني الشخصي بالعمل اليومي الدؤوب، المنتظم كضرورة لانتاج الفن والأدب، وهل كان لنجيب محفوظ تأثير عليَّ في ذلك قد يكون لأن كثيراً من أصدقائي الكتاب يشابهون بيننا في ذلك. ما أثرانا بنجيب محفوظنا، أطال الله في عمرك. نشكرك على ما أعطيتنا. فبك تكون الحياة أجمل. على الهامش: في احدى جلسات نجيب محفوظ الأسبوعية بمقهى ريش، دار الحديث حول فيلم «الخادم» لديرك بوجارد الممثل الانجليزي. قال نجيب محفوظ ان الفيلم يجب أن يكون سهل التلقي لأنه في القراءة يمكنك التوقف ثم اعادة القراءة لكن الفيلم ليس كذلك. لا أعرف كيف حدث وانفض الجمع عداي، ووجدتني أخرج عن صمتي الدائم والمحبب الى نفسي تلك الأيام لأقول له: استاذ نجيب يمكن اعادة مشاهدة الفيلم أكثر من مرة، وهذا ما فعلته لأنني أعجبت بهذا العمل، ثم أضفت مستدركاً هل ما قلته كان رأيك الحقيقي أم كان مسايرة للآخرين الكارهين للفيلم، وقد كان الاستدراك الأخير أدباً مني لاعطائه فرصة انهاء الحديث لو أراد. حينئذ هز رأسه موافقاً، وكان هذا هو ابن البلد فيه وادعيت البلاهة وصدقته بنفس طريقة أولاد البلد أنا أيضاً.

* مدحت الجيار: تلخيص العالم في حي

* ما زالت أعمالك تحيط بنا في المكتبات وفي العقول وعلى شبكات الانترنت. ولا تزال قصصك فاعلة في السينما العربية، وما زالت أفكارك باقية في واقعنا العربي، تشهد أنك أخلصت للكتابة وأعطيتها نفسك كلها، فأعطتك ثناء الناس من القراء والمشاهدين والمستمعين والنقاد والباحثين. ونشهد لك أنك لخصت العالم في حي الجمالية بالقاهرة حتى تحول الى نموذج انساني بهر العالم حين ترجم الى كل اللغات الشهيرة. بل تمنى بعض الروائيين أن يعيشوا هذه الحياة، ليكتبوا هذه الكتابة، وليتهم يفعلون. عشت مثلك في حي الجمالية، وما أزال، ولهذا أحس أكثر بما تكتب، وأعيش معك في كتاباتك ما لم أعشه قبل أن أولد، أو قبل أن أعي الحياة. لقد لخصت لي مصر، ولخصت لي الانسان المصري، وكنت صادقاً حين كتبت عما عشته ولم تتصنع عوالم لم تعشها، ولم تتصنع شخصيات لم ترها. بل على العكس حولت ما عشته ورأيته الى واقع فني صدقناه، وتمنينا أن نعيشه مثلك بل لقد تمنيت في بعض الأحيان أن أكتب مثلك رواية عن تجربتي في الحي نفسه وسميته فعلاً أيام الجمالية، وأرجو أن تخرج الى حيز التنفيذ لأعرضها عليك. صدقني لقد تابعتك وأنت تتألق من نص الى آخر، وكنت منذ ثلاثين عاماً على الأقل أحس أنك عالمي غفل عنك العالميون وتابعتك وأنت تقفز من جيد الى أجود، من الثلاثية الى أولاد حارتنا، الى الحرافيش.. الى سيرة عبد ربه التائه. نعم تابعتك وأنا أوجه تلامذتي اليك، حتى أخرجنا عملاً بحثياً عنك، يبدأ بالقصة القصيرة التي رأينا فيها كثافة العالم وكثافة الانسان في الزمان والمكان. يا عم نجيب، كل سنة وكل عقد وكل قرن وأنت طيب