مايكل مارش لـ «الشرق الأوسط»: العرب يحتفون بالشعر أكثر من الغربيين

الشاعر التشيكي وأستاذ الشعر في جامعة نيويورك في زيارة ثقافية للمغرب

مايكل مارش
TT

الشاعر التشيكي مايكل مارش، المولود في نيويورك (1946)، له 7 كتب في الشعر، وبعض الكتب التي تحتوي على النصوص النثرية التي يتشعب الحديث فيها. وهو بروفسور الشعر في جامعة نيويورك، ورئيس مهرجان كتّاب براغ. شعره يقبض على الجوهر، ويشيد قصيدته بأقل الكلمات القاموسية وأكثرها تعبيرا وشفافية. هذا النوع من التشذيب عادة ما يكون عند كتّاب القصة القصيرة أو كتاب البرقيات. وبالنسبة له، هناك نوعان من الشعراء: الشعراء الصاخبون، إنهم كالطبول والنفير. وهناك الشعراء الهامسون، وهم الذين يبحثون عن الماء الدفين أو المعنى الدفين، وهم من يُعول عليهم. وهذا ينطبق تماما على مارش نفسه.

يقول في سيرته «ولدت في نيويورك بالقرب من مأوى إسحاق باشيفيز سانغر، بجوار متحف التاريخ الطبيعي الشهير، الذي يؤكد على العالم القديم. حينها كانت الحرب الباردة تبعث بلهيبها بين حدود الشرق والغرب. في تلك الفترة، كانت نيويورك عبارة عن مدينة أوروبية، لا تختلف عنها في تقاليدها الأدبية والثقافية، لكنها انحرفت في ما بعد لتتحول إلى مدينة أخرى كوزموبوليتية صاخبة».

في الدار البيضاء، التقيت بالشاعر مايكل مارش، وتشعبت أحاديثنا بين رحلاته وشعره وإدارته لمهرجان «كتّاب براغ»..

* كيف جئت إلى الشعر حاملا مشعل مدينتين متميزتين: نيويورك وبراغ؟

- جئت إلى الشعر كرحالة، أشعر بأنني أتجوّل بين المدن، باحثا عن روحها التي غابت بين خرائبها. وقد واصلت دراستي في جامعة كولومبيا. لكن ما يؤسف أن جيلي اختفى، ولا أجد نفسي إلا مع كلمات فلاديمير هولن عن الحرية وأنسابها، وكذلك «ملحمة جلجامش» التي يعرفها العرب أكثر مني. كنت هاربا من الحياة، من مدينة مثل نيويورك، فيها حياة مثيرة، وتنطوي على قدر من الرومانسية، وهي عبارة عن مزيج من الحضارات في آن واحد. ومن هنا جاء انغماسي كرد فعل على هذه المدينة. تركت أميركا عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، لأتجوّل في أرجاء أوروبا. كنت حينها مهووسا بفكرة مغادرة العائلة، والبحث عن تجارب شخصية دونها لا يمكن كتابة الشعر. ومن هنا أحسست بأنني في جولة من أجل أن أتعلم أشياء كثيرة حول الشعر. وكان علي أن أقرأ الشعراء، وأكتب القصيدة إذا ما حالفني الحظ، لأنني أعتبر القصيدة تنتمي إلى المستقبل. في بادئ الأمر استولت علي فكرة مغادرة العائلة ربما من أجل حرية الفكر. تركت نيويورك واللسان الأميركي ليكتب به الروائيون الجميلون، من أجل اكتشاف الشعر.

* ذكرت جلجامش.. ما الذي يثيرك في هذه الشخصية عدا أنها أول ملحمة إنسانية كُتبت في التاريخ؟

- بصراحة، ما أعجبني في هذه الملحمة أن إلهة الحب تواسي جلجامش قائلة له: «إلى أين تسارع الذهاب؟ إنك لن تجد الحياة التي تبحث عنها لأن الآلهة عندما خلقت البشر قررت عليهم الموت، واستأثرت هي بالخلود». وهذه الفكرة غيّرت حياتي ونظرتي إلى الشعر، لذلك تراني أعتبر كتابة قصيدة مثل الصلاة، مثل الحب، مثل الاستماع إلى الكلمات العارية.

* سنعود إلى شعرك، لكن شهرتك متأتية من إدارتك لمهرجان كتّاب براغ لسنوات طويلة..

- نعم.. كان عليّ تنظيم مهرجان كتّاب براغ لسنوات طويلة، واستضفت فيه كبار الكتّاب أمثال: ميشال هولبيك، وإيف بونفوا، وإيد ساندرس، وألن غينسبرغ، وفيكتور إيروفييف، وغيرهم من الكتّاب والشعراء. حاولت أن أجعل من المهرجان احتفالا بالفكر. ومن الطريف أننا كنا نحجز جوازات سفر الكتّاب والشعراء لكي يبقوا أطول مدة ممكنة، ويكتشفوا مدينة براغ، وكل ما فيها من تقاليد ثقافية، وكذلك يلتقوا بالجمهور. وقد أصدرنا أنطولوجيا لتسجيل إبداعات الشعراء والكتّاب الذي حضروا المهرجان طيلة 15 عاما. ويمكنني أن أضيف أسماء أخرى جاءت إلى المهرجان من أمثال: سلمان رشدي، وويليام ستايرون، وندين غوردمير، وهانس - ماغنوس ايزنبرغر، وآرثر ميللر، وروبرت كيلي، وميروسلاف هولوب، وآر إس توماس، وهو المهرجان الذي يتمكن فيه الشعراء والكتّاب من أن يلقوا ما يكتبون بلغات عديدة، منها الفرنسية، والتشيكية، والإسبانية واليونانية، والإنجليزية، وغيرها من اللغات، مما جعله مهرجانا عالميا بامتياز.

* ومن العرب، ألم تستضف شعراء معينين؟

- بالتأكيد. استضفنا عددا من الكتّاب والشعراء العرب أمثال: أدونيس، ومحمود درويش، وسعدي يوسف ومريد البرغوثي وياسمينة خضرة وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وغيرهم. وقد تحدثت للجمهور عن شعر محمود درويش الذي تعرّف على شعره وأعجب به. ويمكن أن نذكر أن ترجمة الشعر العربي ضعيفة، وتقتصر على بعض الجامعات التي تطبع الشعر العربي المترجم بأعداد نسخ محدودة. هنا في براغ هناك شاعران عربيان شهيران هما: نزار قباني وأدونيس، والأخير شعره مترجم بشكل واسع. أؤمن، بما لا يقبل الشك، بأن الشعر العربي مهم للغاية، وهو ذو تأثير عالمي. الجميل عند العرب أنهم جعلوا منه ديوانهم الكبير.

* لماذا لم تقيموا المهرجان في نيويورك؟

- ما يمكن عمله في براغ لا يمكن عمله في نيويورك، لأنها مدينة تتلاءم مع روح الشعر، وهذا لا يقلل من قيمة نيويورك. ولد مهرجان كتّاب براغ من رحم معرض براغ الدولي للكتاب، وكان جزءا منه، لكن كتّاب المهرجان لم تكن لهم صلة بالمعرض بالضرورة، وتم الافتراق عنه بسبب أن معرض الكتاب أصبح ظاهرة تجارية بحتة، أما مهرجاننا فبقي على صفائه في الابتعاد عن التجارة، واقتصر على المبدعين القلائل في المجتمعات الأوروبية والغربية، خاصة المهمشين منهم والمتمردين.

* هناك نيّة لدعوة بعض الكتّاب والشعراء المغاربة إلى مهرجان الكتّاب في براغ هذا العام.. كيف تم الاختيار؟

- جئت إلى المغرب من أجل دعوة مجموعة من الكتّاب والشعراء. لدي أصدقاء يقومون بنقل برامج المهرجان على الأثير، كما نسعى إلى دعوة الرسامين المغاربة، وفتح المجال واسعا أمام الأجيال الجديدة. هناك دعوة لي من وزارة الخارجية ووزارة الثقافة المغربيتين. اجتمعت برئيس اتحاد كتّاب المغرب، عبد الرحيم العلام. وقد تمحور الحديث حول مهرجان براغ واتحاد كتاب المغرب، وضرورة تطوير العلاقات الثقافية بين المغرب والتشيك. وكان الهدف المرجو من هذا اللقاء هو تقريب الضيفين من المشهد الثقافي والأدبي، ونحن مهتمون بالاطلاع على أهم المحطات التي مرّ بها اتحاد كتّاب المغرب، ومنجزاته الكبرى، على مدى أكثر من خمسين سنة من الحضور المؤثر والمتجدد. وقد اتفقنا على استمرار التواصل فيما بيننا، في سبيل تمتين أواصر التعاون الثقافي بيننا.

* كيف توفق بين إدارة مهرجان شعري وكتابة الشعر؟

- إنني أحاول التوفيق بينهما. لا بد من إقامة نوع من الموازنة بين الذات والمجتمع. أعتقد أن مكاني هو في الكتب. هذا قانون مقدس بالنسبة لي. إنني ربما عاطفي لدرجة أنني أمزج بين الصلاة وكتابة الشعر. لكني في الوقت نفسه أشعر بالرعب عندما أجد اسمي مربوطا بكتاب، لأنه يسبب لي نوعا من الارتباك دون أن أعرف السبب. عندما أرى تكريم شعراء مثل ماندلستام وإزرا باوند، أجد من الصعوبة أن يقترن اسمي باسميهما في كتابة الشعر. وعندما نرى الحلم يتحقق، نشعر بالخوف. وفي الوقت نفسه، يعطيني هذا الإحساس قوة دافعة في الاستمرارية. كتابة الشعر في نظري عبارة عن حوار مستمر عبر الزمن. نحن نصلي من أجل أن يحمل الآخرون راية الشعر إلى الأجيال المقبلة، لأنه على قدر كبير من الأهمية بحيث يمكن تشبيهه بالدم والأرض.

* التعامل مع الآخر عادة ما يتم من خلال اللغة، التي أشبه ما تكون بالسباحة في الخرائب، ما رأيك؟

- المسألة التاريخية تستوجب تعدد اللغات. يمكنني القول إن اللغات ترجعنا إلى شاعر كبير هو بول سيلان الذي كتب الشعر بأكثر من لغة، وهو أمر في غاية الصعوبة، لكنه أبدع في ذلك. وكذلك الشاعر ماندلستام، فعل ذلك، وصامويل بيكيت الذي عبّر بلغتين: الفرنسية والإنجليزية، لكنه في نهاية المطاف اعترف بفشله.

* كيف أمكن تمويل مهرجان كتّاب براغ؟

- التشيك يكرهون الأجانب، ولهذا السبب هم معزولون. وهذا لا يساعد على التمويل. التمويل صغير جدا. هناك بعض الدعم من وزارة الثقافة التشيكية، ولكن ذلك لا يكفي، وقمنا أخيرا بتأجير المسرح الموجود في مبنى المهرجان مما ساعدنا قليلا. نحن نعرف أن المجتمع ينفق أمواله بطريقة غبية، لكن ما العمل؟ لم تعد الثقافة تثير شهيّة الممولين والمستثمرين، لأن الغالبية العظمى، وللأسف الشديد، ومن بينها المؤسسات الرسمية، لا تهتم بالثقافة. لا يوجد دعم للثقافة أو أنها تتناقص يوما بعد آخر.

* تتنقل من مدينة إلى أخرى، من نيويورك إلى لندن إلى براغ.. لماذا هذا التنقل وهل له أهمية في حياتك؟

- انتقلت إلى لندن لكي أكون شاعرا، وليس لأنخرط في الأعمال التجارية، ولو أن تجارة الثقافة أصبح لها رواج كبير في وقتنا الحالي. صحيح أنني أتنقل كثيرا، لكنني أمضيت حياتي مع الشعر. قرأت الشعر في لندن لأول مرة، بعد معاهدات هلسنكي، في بيت الشاعر كيتس، بالتعاون مع المجلس البريطاني. وكذلك زرت بولندا وقرأت فيها. وقد بدأ اهتمامي بالكتّاب والشعراء من بولندا، والتشيك، وهنغاريا لأن أعالمهم تتوافر على روحية معينة، لها علاقة بالحرب العالمية الثانية والقيم الإنسانية التي تم تحطيمها، وكان لا بد لي أن أشهد هذا التحوّل بانبعاث هذه القيم من جديد.

* ألم تكتب النثر؟

- كتابة النثر صعبة للغاية، لأنه إذا أردت أن تكون ناثرا جيدا، فيجب أن تتحلى بخيال واسع. يقول أوكتوفيو باث إنه يخاف العالم من دون الشعر، لأنه يؤمن بالشعر كثيرا، وربما إيمانه الكبير بالشعر جعله لا يكتب سوى نصوص قليلة في النثر.

* الشعر.. إذن في الشعر حياتك، وحياتك في الشعر، هل تشعر بالكآبة من عزف غالبية جمهور القراء عن قراءة الشعر؟

- كيف لا أشعر بالكآبة، بل كيف لا أشعر بالحزن العميق لهذا الأمر. ربما تندهشين لو قلت لك: عندما أسمع الشعر العربي ويتفاعل الجمهور معه، أشعر بسعادة غامرة، وفهمت أن هذا الجمهور لا يطرب للقصائد الحديثة أو ما يطلقون عليه «قصيدة النثر» لأنه ليس هناك حوار بين القصيدة والجمهور، ربما لأن الجمهور ربط في مخيلته بين إيقاع الإلقاء والشعر. وحتى حين تطور الشعر العربي بقيت هذه القاعدة مستمرة، وقصيدة النثر خرجت عن هذا القانون بل خرجت عن كل التقاليد، كما فهمت من بعض الشعراء العرب الذين شرحوا لي هذا الموضوع. وكما هو معروف، لكل جمهور أو لكل أمه ذائقة، فالفرنسيون والانجليز لهم تقاليدهم في الشعر. أحب الشعر العربي لأن الشاعر والجمهور يتحدان مع بعض، وهذا غائب عن الشعر الأوروبي. ولو أن الجمهور الأوروبي والغربي يدفع المال لكي يستمع إلى الشعر.

* تشير كثيرا إلى الفلسفة في أشعارك، ما هو الرابط بينهما؟

- عندما نربط الشعر بالفلسفة، لا بد أن نستذكر اليونان، بشكل خاص. أعتقد أن ترجمتي إلى اللغة العربية أمر مهم للغاية، لأن العرب هم من أكثر الشعوب الذين يريدون التعرف على الآخر، وفي أعماقهم شغف تعلم اللغات. المعروف أن قراءة الشعر في المسارح أو المهرجانات تعود بطبيعته إلى العالم القديم. وفي عملية القراءة يمكن للكلمات أن تدخل في مسامات جلدك، وفي تفاصيل ذهنك وعقلك. وحينها يمكن أن تتذوق القصيدة، وتتمتع بإيقاعاتها وبموسيقاها. وهذه ظاهرة تعود لي لى الماضي، وعلى تضاد مع العالم الجديد، لكن الثقافة من شأنها أو توّحد بين الحضارات.