تحولات المثقفين .. غربا وشرقا

فاضل السلطاني

TT

ظاهرة تحولات المثقفين ليست بجديدة, وتكاد تنطبق على المثقفين اليساريين تحديدا منذ عشرينات القرن الماضي إلى السبعينات منه. ونتحدث هنا عن الغرب، حيث الحدود الفكرية والسياسية والاقتصادية واضحة، ومكرسة منذ مئات السنين بسبب الانقسام الطبقي الواضح، واتخاذ الطبقات الاجتماعية معالم وسمات متميزة. التداخل الطبقي، الذي لا يزال يميز مجتمعاتنا، يكاد يكون معدوما في هذه المجتمعات التي دخلت مرحلة عالية من التطور الرأسمالي منذ أمد بعيد. ولهذه الأسباب لا يستطيع المرء الآن أن يتحدث عن تحولات دراماتيكية، سواء أكانت اجتماعية واقتصادية، على مستوى البناء التحتي، أم ثقافية، على مستوى البناء الفوقي، وبالتالي عن «تحولات المثقفين»، كظاهرة ثقافية.

لقد عرف الغرب مثل هذه التحولات الثقافية الكبرى بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917، التي جذبت فكريا كثيرا من المثقفين الأوروبيين الحالمين بتغيير العالم، ولكن واقع الثورة سبب لقسم منهم صدمة فكرية كبيرة. ولعل أول الأمثلة الصارخة على ذلك الكاتب الفرنسي أندريه جيد، الذي تحمس للثورة في البداية، ثم تحول ضدها، وضد الفكر اليساري عموما، بعد زيارته الشهيرة إلى موسكو آنذاك. وفي الثلاثينات، أعلن الكاتب المجري آرثر كوستلر طلاقه من الفكر الشيوعي في كتابه الشهير «الإله الذي هوى»، إشارة إلى ستالين، مسجلا فيه معاناته هو ورفاقه وخيبتهم الكبيرة. ومن الأمثلة الأخرى أندريه مالرو، ، الذي قاتل إلى جانب الثورة الإسبانية، وكتب عنها أثره الشهير «الوضع البشري»، مستلهما فيه أحداثها، وتعقيداتها، ومآلها الدراماتيكي، وخيبته أيضا. ثم عاد إلى فرنسا.. يمينيا، ديغوليا بامتياز. ومن الذين شاركوا في الثورة الإسبانية أيضا، الشيوعي آنذاك جورج أرويل، صاحب «حنين إلى كاتالونيا»، لكنه عاد خائبا، فتحول ليس إلى اليمين فقط، ولكن إلى واشٍ على رفاقه السابقين.

وفي الستينات، تحول جان بول سارتر، صاحب كتاب «شبح ستالين»، تحولا عكسيا دراماتيكيا بتبنيه الماركسية، وإن على طريقته، بديلا عن فلسفته الوجودية، فنزل إلى الشارع أثناء ثورة الطلبة موزعا أدبيات تنظيمات شيوعية، كانت على يسار الحزب الشيوعي الفرنسي الذي اتهموه بتبعيته للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي آنذاك. ومن الأمثلة الأخيرة على ذلك تحول الروائي ماريو يوسا الذي استبدل ليدي تاتشر بكارل ماركس!

ولكن ظاهرة تحولات المثقف الفكرية انحسرت كثيرا في أوروبا مع خفوت حدة الصراع الطبقي ابتداء من السبعينات، وهذا لا يعني أنه غير موجود تحت السطح، وتراجع كثير من الحركات الثورية، لتبدأ في مناطق أخرى في العالم الثالث، وخاصة في المنطقة العربية وأميركا اللاتينية. ولكن حصل الأمر عندنا معكوسا.. خاصة بعد هزيمة يونيو (حزيران) 67، وفشل الوحدة المصرية - السورية.. انتقل مثقفون من الفكر اليميني بمختلف أشكاله، وخاصة القومي، محملين هذا الفكر مسؤولية ما حدث، إلى الماركسية. وكانت ظاهرة كبيرة، لم تشمل الأفراد فقط، وإنما حركات قومية بكاملها.. ولكن إلى حين. فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، وما تلاه من تراجع أو انهيار كثير من الحركات اليسارية في العالم، تصاعدت مرة أخرى ظاهرة تحولات المثقفين العرب.. قسم عاد إلى قواعده الفكرية الأولى، وقسم آخر اكتشف حلاوة الليبرالية، والقلة تشبثوا بخياراتهم الفكرية.

وإذا كانت تحولات المثقفين الأوروبيين قد وُثقت عبر الشهادات الشخصية للكتاب أنفسهم، أو عبر السير والسير الذاتية، فعرفنا أسباب تحولاتهم هذه، ومعاناتهم النفسية الحادة، ومراجعاتهم الفكرية المضنية، فإننا، عربيا، لم نسمع من الكتاب أنفسهم عن أسباب تحولاتهم الكبيرة من هذا الفكر إلى ذاك، أو من هذا الحزب إلى سواه، وكأن الأمر هو مجرد عبور من شارع إلى شارع آخر، وليس معاناة فكرية ونفسية هائلة. من هنا تجيء أهمية كتاب «حوارات في المسارات المتعاكسة.. تحولات المثقفين اللبنانيين منذ ستينات القرن العشرين»، الذي أصدرته الكاتبة اللبنانية ثناء عطوي. فللمرة الأولى نتعرف، وعبر حوارات ذكية مدروسة أدارتها عطوي، مع مثقفين لبنانيين «متحولين»، خرج معظمهم من رحم الحركات القومية العربية والناصرية والبعثية واليسارية، عن أسباب تغير مساراتهم السياسية والفكرية، وبكل صراحة حادة، بلغت ذروتها في قول حازم صاغية: «لست فخورا بماضيّ السياسي، مرة بعثي، مرة قومي، ومرة خميني»..

إذا كان الكتاب مقصورا على تحولات المثقفين اللبنانيين، فهو يمس في الجوهر المثقف العربي عموما في «سياق التطور السياسي الذي مرت به المنطقة خلال العقود الخمسة الأخيرة، الذي تغيرت فيه بنية المجتمع العربي عموما»، كما جاء في مقدمة الكتاب.