أورفيوس الأسود.. إيقاع أفريقيا الصاخب في قلب أوروبا

فاضل السلطاني

TT

نادرون هم الشعراء الذين استطاعوا، عبر شعرهم، أن يؤثروا في اتجاه فلسفي أو فكري فيغيروا شيئاً من مساره، ومن هؤلاء الشعراء الالماني هولدرلن والسنغالي ليوبولد سيدار سنغور الراحل يوم الخميس الماضي. فقد دفع شعر الأول الفيلسوف الالماني هايدجر الى اعادة النظر في موقفه من اللغة، بعدما تعرف على شعر هولدرلن الذي قضى حوالي ثلاثين عاما في مستشفى للامراض العصبية، فألف كتابه الشهير «الشعر والفلسفة» المترجم الى العربية.

أما شعر سنغور، فقد دفع جان بول سارتر الى اعادة مفهوم الالتزام الى جمهورية الشعر، بعدما طرده منها، فكتب مقاله الشهير «اورفيوس الاسود» معرفاً بشعر سنغور وزميله في الشعر والنضال والحياة ايميه سيزر ومثبتاً، من خلال قصائدهما، ان الالتزام، بمعناه الاوسع، لا يغير فنية الشعر فقط، وانما يمكن ان يعمقها ويدفعها الى آفاق انسانية ارحب.

لقد مثل سنغور وسيزر لسارتر وغيره من المثقفين الفرنسيين في الخمسينات ظاهرة مختلفة تماماً في المشهد الشعري الفرنسي من جانبين: الأول انهما جمعا بين اليومي والكوني، والوطني والاممي في ايقاع افريقي فوار نابض فلم يهبطا الى نثرية الحياة اليومية كثيراً، ولم يرتفعا الى سماء التجريد كثيراً، وهما بعدان كانا يراوح بينهما الشعر الفرنسي عموماً.

أما الجانب الثاني، فهو ان شعرهما اعاد طرح قضية الالتزام بمعناها الحقيقي، الارحب من كل التضييقات التي الصقتها بها ما سمي بالواقعية الاشتراكية والمقاييس التي حاولت اسطرتها على جسد غير موجود.

لم يكن سنغور وسيزر بحاجة الى مدرسة فكرية أو شعرية فعفوية افريقيا، كما قال سنغور مرة، تنطوي على الفلسفة والشعر المتوارثين من حقب طويلة، وليست هذه الفلسفة سوى الشراكة الانسانية بين البشر انفسهم، وتآخيهم مع الطبيعة وليس الشعر سوى ذلك الرقص الافريقي الجماعي المصاحب لكل فعل اجتماعي أو فردي.

وفي هذا الصدد يقول سنغور «ان الصورة لا تأثير لها على الافريقي اذا لم تكن ايقاعية. فالايقاع هو الذي يكمل الصورة بتوحيدها مع الاثارة والحس، ومع الروح والجسد».

هذه الخاصية ميزت شعر سنغور، اذا استثنينا المرحلة الاخيرة بعدما اصبح رئيساً. وكما يقول الناقد وليم اوكسلي، فإن سنغور لم يكن يبحث عن الاثارة، بقدر بحثه عن الرموز المكتنزة بالإرث الافريقي، والمشحونة بالصورة والايقاع. وهذا ما يفتقد اليه، حسب رأيه، الشعر الانجلو ـ اميركي. ان الشعر، عند سنغور، يجب ان يسمع كما الموسيقى، فهو ميت على الورقة ما لم تبعثه الاصوات الى الحياة، تماماً مثل الموسيقى. وهي خاصية افريقية بامتياز. فما أن «تسمي شيئاً في افريقيا، حتى ينبعث المعنى المختبئ تحت الاثارة».

ومن هنا فإن شعر سنغور او سيزر ضروري لنا، بنفس القدر الذي كان فيه ضرورياً للفرنسيين في الخمسينات والستينات، وللانجليز الذين اكتشفوه متأخرين، لأن هذا الشعر، كما يقول اوكسلي، يكشف لنا كيف يشارك «الوعي الافريقي» بفعالية في اشياء الحياة، وفي الطبيعة، بحيث يستطيع ان يربطنا، أو يعيد ربطنا، بحياة الجماعة، من خلال الشعر، وبمساحات مفقودة من التجربة. وبغير ذلك، كما يضيف، سيبقى فهمنا للحياة قاصراً، وكذلك شعرنا.