الطيب صالح وعبد الله الناصر وبينهما ذو الرمة وتشرشل

الروائي السعودي يستحضر ذكرياته مع الأديب السوداني

الطيب صالح، و عبد الله الناصر
TT

بعد أعوام من وفاته، يستحضر الكاتب والروائي السعودي عبد الله الناصر، جانبا من علاقته بالأديب السوداني الراحل الطيب صالح، وبينها مرافقته إلى الصحراء، بحثا عن أثر شاعرها ذي الرمة.

ويسرد الناصر في حديثه هنا مع «الشرق الأوسط»، كما في محاضرة سابقة ألقاها في الخرطوم عن ذكرياته كواحد من المثقفين السعوديين الذين عاصروا الأديب السوداني الراحل خلال زياراته المتكررة لبلادهم مشاركا في الكثير من المؤتمرات والندوات الثقافية والفكرية، وأهمها المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، كما في لقاءاتهم به في المناسبات الثقافية العربية كمهرجان أصيلة في المغرب أو غيره.

وشكلت تلك المساحات من اللقاءات الأدبية والفكرية مع الطيب صالح لعبد الله الناصر «ألبوما» من الذكريات مكنته من الاقتراب والنفاذ إلى الكثير من ملامحه الثقافية. وفي ندوة ثقافية نظمت أخيرا بالعاصمة السودانية الخرطوم، نظمتها وزارة الثقافة السودانية، تحدث الناصر عن ذكرياته مع الطيب صالح.

يقول الناصر: «كان الطيب صالح أثيرا عزيزا سافرت معه إلى مؤتمرات أدبية كثيرة، وذهبنا سويا إلى بلدان كثيرة، ورحلنا إلى الصحراء معا في أثر شاعر الصحراء الأول ذي الرمة، وفي ليالي رمضان بلندن كنا نلتقي». وقال عن الطيب إنه «يكتب رواياته بنفس شعري».

ويضيف: «إن أحاديث الروائي الطيب صالح عن ذي الرمة والمتنبي وأبي علاء المعري ما زالت تروى في المجالس الثقافية السعودية من خلال الذين عاصروا جلساته في مهرجان الجنادرية على مدى سنين».

واستعرض الناصر بعض الذكريات المشتركة مع الراحل، خاصة تنظيمه رحلة للطيب صالح إلى ديار الشاعر ذي الرمة، متناولا أعماله الأدبية واهتماماته الإنسانية.

يقول: «كان الطيب صالح أستاذي، تعلمت منه كثيرا، فهو كاتب عملاق، ومن القلة جدا في عالمنا العربي، فهو يجمع بين الإبداع والتعمق في اللغة مع فهم الشعر العربي، وفي ذلك تفوق على كثير من الروائيين العرب، لأنه امتلك ناصيتها، وتعمق في الأدب العربي قديمه وحديثه. وأشهد هنا أن الطيب كان عميق الإيمان، عميق الإحساس بالله، معتزا بتاريخه، معتزا بعروبته، معتزا بتراثه وبثقافته العربية إلى أبعد الحدود، ولقد كان مؤمنا حقا، ولكنه ذلك الإيمان الشفيف الرهيف، الذي قد لا تراه في المظهر، ولكنه يذهب إلى أعماق أعماق الروح».

ورأى أن الطيب صالح كان «يمارس الصعود دائما رغم قلة إنتاجه، لأنه يؤمن بالكيف لا بالكم، ومع أنه كتب (عرس الزين)، و(دومة ود حامد) و(بندر شاه)، وغيرها، إلا أن روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)، كانت الأشهر بينها من حيث الدراسات وما استند عليها من تفسيرات، حول علاقة الشرق بالغرب، والمستعمر بالمستعمر، ولكنها لم تكن أفضلها، كما كان يقول الطيب صالح نفسه».

وعن أثر الراحل الطيب الصالح في الأدباء والمثقفين السعوديين خاصة، والخليجيين عامة، ذكر الناصر أن هذا «التأثير كان واضحا»، ولا غرو في ذلك؛ إذ إنه كان المثقف العربي الأبرز في كل أمسيات دورات «الجنادرية» على مدى 23 عاما مضت من عمره، كما يزين ملتقيات المثقفين العرب الذين تحتضنهم العاصمة السعودية الرياض كل عام، يحدثهم عن معتركات الحياة الثقافية السعودية والخليجية والعربية بتفاصيل لا تتوفر لدى الكثيرين منهم، كما كانت له مساجلات في مجلس الراحل الشيخ عبد العزيز التويجري».

اطلاع الطيب صالح على المشهد الثقافي، سواء في المملكة أو دول الخليج الأخرى، جعله، كما يضيف الناصر، يتنبأ بطفرة في الرواية النسائية الخليجية بشكل عام، والسعودية بشكل خاص، حيث نقلت عنه مجلة «عالم الكتب - العدد الرابع 1981»، قوله: «إذا كان الخليج عنده أدب حديث وأصيل وليس ازدهارا مجبرا فسيكون مكتوبا على يد امرأة؛ لأن النساء هن اللاتي يعشن تحت ظروف اجتماعية صعبة تجعلهن مؤهلات للكتابة في الرواية والشعر.. وإنه إذا كانت هناك رواية خليجية خلال السنوات الـ10 المقبلة فإنها سوف تكون رواية امرأة كتبت بالقهر والغضب».

وعلى الرغم من أنه صنف واحدا من أفضل مائة روائي عالمي، فإن الطيب صالح كان بسيطا متواضعا. وعن هذه النقطة، يقول الناصر: «أذكر أننا – في السفارة السعودية في لندن، حيث عمل الناصر مستشارا ثقافيا هناك - كنا نقيم حفل إفطار أدعو إليه بعض الأدباء من العرب والسعوديين والمهتمين، وكان يتحول ذلك الحفل إلى مهرجان أدبي رمضاني يستمر إلى قبيل بزوغ الفجر بقليل، حيث كان أديبنا الطيب صالح يستمتع بجلساته وقفشاته وما يدور فيه من نقاش، ويتحدث فيه عن ذكرياته في شهر رمضان في الزمن الغابر بشجن، غير أنه في نفس الوقت يصغي إلى أحاديث الآخرين بشغف كبير. وفي ليلة من تلك الليالي الأدبية الرمضانية، كنا نتحدث عن شخصيتين عظيمتين هما عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، بمشاركة عدد من الإخوة السعوديين أذكر منهم الدكتور الإعلامي محمد صبحي، والدكتور محمد الماجد، حيث كان الطيب صالح محبا لعبد الله بن عمر ومعجبا بتقواه، وهو كتب عنه حلقات في مجلة «المجلة» وعن زهده في الدنيا، والإعراض عنها رغما عن مكانته العظيمة في نفوس الناس».

كذلك كان الطيب، يضيف الناصر.. «معجبا بابن عباس.. معجبا بذكائه وفصاحته وسرعة بديهته، وحسن تخلصه، وتفقهه، وغزارة علمه، فقد كان حبر الأمة، إلى جانب شاعرية ابن عباس، فقد كان أديبا حافظا للشعر وأيام العرب، وكان شديد التسامح في إلقاء الشعر، والتحدث به وعنه، فقد كان يلقي قصائد عمر بن أبي ربيعة في المسجد، وكانت له أحاديث معه ومع الحطيئة وكثير من الشعراء».

ويذكر الناصر أنه ذات مرة صلى الطيب صالح صلاة التراويح معه في المكتب، وكان يؤمهم آنذاك الدكتور إبراهيم السعدان الذي كان وقتها، يحضر لشهادة الدكتوراه، وكان صوته عذبا جميلا، وكان حينها نحيلا، نحيفا، فلما قضيت الصلاة، فإذا بالطيب صالح يلتفت إليه قائلا: «يا أخي، لست أدري، ذكرني هذا الشاب بعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هكذا والله تخيلته».

ويضيف الناصر: «بعدها أمسك الطيب بيدي وحدق في وجهي، وكأنه يستقرئ شيئا، أو يتذكر شيئا!! ثم قال: ألم يكن مكتبكم هذا مكتبا لرئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، ذلك الصهيوني المتعصب في صهيونيته؟ قلت: بلى! كان مكتبا له، وتسلم وزارته هنا.. قال: ما ظنك لو أنه قام من قبره، وسمع هذا الشاب يقرأ القرآن في مكتبه!! ألن يقول ما قاله أبو جهل وقد اعتلى ابن مسعود صدره، وأخذ يحز رقبته بسيفه، فقال: لقد ركبت مركبا صعبا يا رويعي الغنم؟! ثم سقطت دمعة من عين الطيب صالح!».