هيبة القانون ورهبة منفذيه من منظور الماوردي وابن خلدون

دولة القانون تضع حلولاً للازدواجيات ولا تحابي المتنفذين أثناء تطبيق القوانين

TT

قبل ان يجف حبر مقالة «ديوان المظالم» المنشورة يوم الخميس الماضي اتصل الصديق الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجة سفير المملكة العربية السعودية بالمغرب ليناقش باسلوبه الحضاري الأليف بعض ما جاء فيها من نقاط خلافية، وافادني مشكوراً بوجود ديوان عريق للمظالم بالمملكة العربية السعودية. ثم حمل الفاكس رسالة اعتراض من المحامي عبد الإله الرزاقي يعترض فيها على فكرة ديوان المظالم لكونها تتناقض ـ كما قال ـ مع سلك القضاء وتخلق ازدواجية في سلك الأجهزة المكلفة بتطبيق العدالة. واكتملت الاعتراضات بفاكس ثالث يحمل هذه المرة اعتراضاً اكاديمياً. فالدكتور عبد القادر برو لم يجد تعليقات ابن خلدون على الطرطوشي وينكر على الأخير قصب السبق رغم تقدمه الزمني، فابن خلدون عنده يأتي اولاً في كل شيء، خصوصاً في فهم التنظيمات السياسية للدولة الاسلامية.

ونظراً لهذه التعليقات وغيرها، وجدنا ان الموضوع يستحق وقفة اخرى، ونبدأ بالاعتراض الاكاديمي، فلو عاد الدكتور برو الى مقدمة ابن خلدون في فصل (انه اذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية) فسوف يجد تعليق ابن خلدون على كتاب سراج الملوك، خصوصاً في مسألة ضرائب الفلاحين وتدهور الجباية بعد عصر المنصور بن ابي عامر حين ضعفت العصبية العربية، ونخرت الرفاهية والترف قدرة العنصر العربي على الحكم ظلماً أو عدلاً. وعن ذلك يقول ابن خلدون في مقدمته «وقد ظن الطرطوشي ان حامية الدول باطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة ذكر ذلك في كتابه الذي سماه (سراج الملوك) وكلامه لا يتناول الدول العامة في اولها وانما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب، واستحكام الصبغة لأهله، فالرجل ـ الطرطوشي ـ انما ادرك الدولة عند هرمها وخلق جدتها، ورجوعها الى الاستظهار بالموالي والصنائع ثم الى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة ـ مرتزقة ـ فإنه انما ادرك دول الطوائف وذلك عند اختلال دولة بني أمية، وانقراض عصبيتها من العرب واستبداد كل أمير بقطره، وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفر أهل سرقسطة ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلثمائة من السنين وهلاكهم ولم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة، وبقية العصبية فهو لذلك لا ينازع فيه ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطرطوشي القول فيه ولم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة».

* الوظيفة المركبة

* ولا نظن ان نظام الجباية وحده هو السبب ولا انقطاع الجلوس للمظالم، فهناك فروق فردية لا بد من اخذها بعين الاعتبار، فالمنصور بن ابي عامر الذي لم يدركه الطرطوشي كان دائم السهر رغم حروبه الخارجية على شؤون الرعية، وكان يباشر المظالم بنفسه ويبالغ في الاحتياط من اجل أمن مواطنيه. وينقل المقري في نفح الطيب قصة عنه عن لسان مقرب منه يقال له شعلة قال: «قلت للمنصور ليلة طال سهره فيها: قد أفرط مولانا في السهر، وبدنه يحتاج الى اكثر من هذا النوم، وهو أعلم بما يحركه عدم النوم من علة العصب فقال المنصور: يا شعلة، الملك لا ينام اذا نامت الرعية ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة».

وخير تعريف لديوان المظالم وعمل ولاته نجده ايضاً في مقدمة ابن خلدون الذي رأى في الديوان «وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء، وتحتاج الى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المعتدي وكأنه يمضي ما عجز القضاة او غيرهم عن امضائه».

ويخيل اليّ ان ابن خلدون، ومن عاصره أو جاء بعده كانوا ينظرون إلى ديوان المظالم كمرتبة أعلى من القضاء وان شئنا ان نعبر بلغة العصر فقد وجد أولئك النفر من المهتمين بالحكم والسياسات ونظرياتها في ديوان المظالم وسيلة للانتصاف من المتنفذين من ولاة ووزراء ومستشارين واصحاب شرطة، وبهذا المعنى يمكن ان يكون ديوان المظالم بالنسبة لهم القضاء الذي ينصف المظلومين ممن لا تطالهم سلطة القضاء ولا تبلغهم يد العدالة لتمترسهم خلف وظائفهم ونفوذهم وسلطانهم، التي تسمح في بعض البلدان بأن يكونوا فوق القانون.

ويشجعني على هذا التحليل تعريف الماوردي لقضاء المظالم في كتاب الأحكام السلطانية، حيث يقول عنه «قود المتظالمين الى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة». والهيبة والرهبة صفتان يفهم منهما ان الماوردي يشجع الحاكم على ان يجلس للمظالم بنفسه او يختار لذلك الديوان أقوى رجاله، وهذا ما فعله عبد الملك بن مروان ثم عمر بن عبد العزيز في العصر الأموي ثم المأمون وقبله الرشيد في العصر العباسي، والمنصور بن ابي عامر بالاندلس وقبله الخليفة الناصر اما بعدهما فلم يجلس للمظالم بالاندلس احد لانشغال ملوك الطوائف بمجالس الطرب والشراب عن مجالس العدل والانصاف وشتان بين المجلسين وبين نوعيات السلاطين في العصرين.

ونظن ان المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود كان من انصار فكرة ان يباشر الحاكم بنفسه ديوان المظالم وان يجلس شخصيا للاستماع للمظلومين والمتظلمين والدليل على ذلك الاعلان الموجه من الملك الى كافة المواطنين والذي نشرته صحيفة أم القرى في السابع من مايو (ايار) عام 1926، وفيه توجيه الى أرباب المظالم بأن من كانت له مظلمة على أي شخص موظفاً أو غير موظف كبيراً أو صغيراً، فإن عليه ان يتقدم بشكواه مباشرة الى الملك.

ولا نملك ونحن نسمع عن جولات ملك الاردن التنكرية وقرارات العفو العام عن المعارضين التي أصدرها قبل أشهر أمير البحرين، وعمليات الإصلاح القانوني التي يقودها الرئيس السوري أقول لا نملك حين نربط ذلك بقرار ديوان المظالم الذي أصدره الملك محمد السادس الا ان نلاحظ ان هواجس العدالة وتسريع تطبيقها تتحكم بالحكام الشباب الذين يكتشفون لاحقا ان بيروقراطية الدولة ترهقهم بالأمور الهامشية لتعيق تدخلهم المباشر في رد المظالم والانتصاف لمهضومي الحقوق.

ولا شك ان طبيعة العصر لم تعد تساعد على هذا الاسلوب، فكثافة القضايا اكبر من قدرة شخص واحد والحل لمن يريد هو احياء تلك التقاليد العادلة واسباغ هيبة المسؤول الأول على ديوان المظالم لتتضافر الهيبة والرهبة اللتان يتحدث عنهما الماوردي، وتكتمل السطوة التي لا تنجح دونها تلك الوظيفة بحسب ابن خلدون.

والآن الى الإشكالية القانونية التي اثارها المحامي الرزاقي. فهل يخلق ديوان المظالم ازدواجية في اجهزة العدالة داخل الدولة..؟

* أسئلة حائرة

* نظرياً نعم وعملياً لا، فقد جعلت الدول التي تعمل وفق هذه الأنظمة التراثية من قضاء المظالم أشبه ما يكون بالقضاء الإداري يعني القضاء الذي ينتصف للمواطنين ويأخذ حقوقهم من الموظفين كباراً كانوا أم صغاراً.

وقد فطن الماوردي وابو يعلى الى تلك الازدواجية فوضعا لوالي المظالم شروطا لا يكتمل دونها دوره ومنها بعد الهيبة والعفة ان يكون (جليل القدر نافذ الأمر) وترجمة ذلك ان يكون على اتصال مباشر بالملك او الحاكم كي يهابه الجهاز الاداري، ومصدر الازدواجية قد يكون مصدر قوة بنظر الماوردي فصاحب المظالم يحتاج (الى سطوة الحماة وثبت القضاة) وهذا خلط لا اظن ان طبيعة العصر تقبله، فقد كان من عادة بعض الخلفاء ان يكلفوا صاحب الشرطة للجلوس مكانهم في ديوان المظالم ولو حصل ذلك في هذا العصر لاختلطت السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية وهذا ما لا يريده الباحثون عن العدالة بكافة الأساليب والاشكال.

وقد فرق الباحثون في النظرية السياسية في الاسلام بين النظر في المظالم وبين النظام القضائي وتعصبوا للأول لأنه بلغتهم «يخرج من ضيق الوجوب الى سعة الجواز» وهذا طبعاً يجعله اكثر نفوذاً لكن هل هو اكثر عدلاً..؟

وفي الجواب عن هذا السؤال تحار الألباب لأنه يقود الى اسئلة اكثر تعقيداً فهل نكتفي بالهيبة والحصانة لوالي المظالم أم نعممها لتشمل جميع القضاة..؟

وهل نحن بحاجة لمؤسسة من هذا النوع في ظل وجود قضاء اداري يكفي المغبونين مؤونة التظلم في ديوان المظالم..؟

لقد فجر الأمر الملكي المغربي الذي أصدره الملك محمد السادس قبل اسبوعين بانشاء مؤسسة لديوان المظالم قنبلة قانونية ستظل مهما كانت النتائج التي سيتمخض عنها الحوار مفيدة وايجابية، لتطور النظام القضائي ليس المغربي وحده انما العربي، فمعظم قوانيننا الوضعية اتكأت إما على القانون البريطاني أو الفرنسي ـ حسب الاستعمار الذي حكم كل قطر ـ ونادراً ما فكرت بعض اقطارنا بالاستفادة من النظريات السياسية التراثية التي لا يزال فيها ما ينفع بشرط ان تتوفر لمن يشرف على تنفيذها الهيبة والرهبة والحصانة، فها هم قضاة الانجليز لا يتخلون بحثاً عن الهيبة الشكلية عن شعر أبيض مستعار كان يرتديه اسلافهم قبل عدة قرون اما الهيبة الفعلية، فتأتي من احترام كل دولة لقوانينها وتطبيقها بالعدل على الكبير قبل الصغير، فقد هدرت هيبة القوانين في بعض بلداننا لانها تطبق على الضعفاء والمساكين، وتعجز ان تطال كبار المتنفذين. وبئسا فيانون ذاك الذي يستقوي على المظلومين، ويترك الظالمين في طغيانهم سادرين.