مخرج تونسي يبحث عن عائدة الفلسطينية

المؤلفة والممثلة جليلة بكار تلتقي الفدائيات الفلسطينيات عند تقاطع التاريخ والجغرافيا

TT

ليس موضوع القضية الفلسطينية ولا تأزم الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط وحدهما اللذان يعطيان أهمية خاصة لمسرحية «البحث عن عائدة» التي تعرض حاليا بالعاصمة التونسية، بل هناك اسم مخرجها الفاضل الجعايبي و مؤلفتها جليلة بكار. ثم هناك أيضا وأساسا خصائصها الفنية والجمالية، سيما الأسلوب الأدائي الذي اتبعته الممثلة المذكورة، الذي تميز بتفردها بالخشبة ضمن ما يعرف بالمونولوغ أو «ألوان مان شو» من ناحية، ثم بحياديتها وعدم تماهيها مع الدور أو جملة الأدوار التي تداولت عليها من ناحية ثانية وذلك ضمن ما يمكن وصفه باللاتشخيص أو اللامسرح على حد تعبير الباحث الأميركي أرنست قوفمان. واذا كان المعطى الأول يمثل استثناء في مسيرة هذه الفنانة الحافلة بالأعمال التي أدتها دائما بالاشتراك مع ممثلين آخرين، فان المعطى الثاني يوفر مبررا اضافيا للحديث عن قدرة جليلة بكار للانقلاب على نفسها عبر التخلي عن الانساق والأنماط التشخيصية التي بصمت أسلوبها الادائي منذ «غسالة النوادر» أوائل الثمانينات إلى «سهرة خاصة» أواخر التسعينات. ويقوم هذا الأسلوب على جدلية الهيمنة والانفلات التي تسم العلاقة بين الممثل والشخصية في أعمال الفاضل الجعايبي، والتي مكنت ممثلة كجليلة بكار من انشاء نظام أدائي تفردت به من دون غيرها ثم أثرت به على غيرها أيضا حتى أصبح بمثابة النمط الذي ينسج على منواله عدد كبير من الممثلات التونسيات.

الجديد في أداء جليلة بكار، اذن، والذي برز في هذه المسرحية وفي مسرحية «جنون» التي تعرض بالتوازي معها، هو أنه لا الممثلة ولا الشخصية تمعن في الهيمنة أو في الانفلات من الأخرى، بل هما تتحاذيان وتتحاكيان وكأنهما اتفقتا على الأهم، وهو أن تتحدث وتخبر كلتاهما عن الأخرى. فالمشهد الاستهلالي في «البحث عن عائدة» يبدأ بظهور جليلة بكار على الخشبة، وهي تقف أمام منبر وتتصفح ملفا لتقرأ منه مقاطع من نص توحي مفرداته بأنه قد تلون بشعرية محمود درويش، غير أن قراءته بصوت هذه الممثلة المخضب بالعامية التونسية وبلكنة سكان العاصمة خاصة، يجعله يتوفر على شعرية أخرى. انها شعرية البحث والتقصي تلك التي تسم أغلب أعمال الفاضل الجعايبي وجليلة بكار. فهما دائما يبحثان عن شيء ما عن مفقود نادر وثمين أو عن مجهول مورط ومتهم. غير أن «البحث عن عائدة» يأتي من قبيل الحكم المعلن مسبقا بأن هناك شخصا أو قيمة ما ضاعت (عائدة) وبأن هناك من هو مسؤول أو من هم مسؤولون عن ضياعها، وبالتالي فان الأمر يتطلب البحث في الاتجاهين: اتجاه البحث عن المفقود واتجاه البحث عن المسؤول عن فقدانه، لكن طريقة الممثلة في السرد والاستفهام توحي بأن كلا الطرفين موجودان في مكان ما أو ضمن نقطة ما يتقاطع عندها التاريخ والجغرافيا. فعائدة حسب ما يفهم من ظاهر كلام جليلة هي فتاة فلسطينية هُجرت عائلتها من فلسطين سنة 1948 فتشب وتكبر بأحد المخيمات في لبنان حيث تصبح فدائية ومناضلة. غير أن ما يجعل جليلة بكار تبحث عنها هي دون غيرها أو هي ممثلة لغيرها من الفدائيات الفلسطينيات هو أن كلاهما، أي عائدة وجليلة، يتوفر على تاريخ نضالي طويل، فالأولى هي فدائية فلسطينية مثلما أشرنا، أما الثانية فهي تبلور مفهومها للفداء وتوضح رؤيتها النضالية عبر التأكيد على عمق وثراء مسيرتها الابداعية التي تسرد محطاتها بالتناظر والتوازي مع المحطات الهامة والمميزة للقضية الفلسطينية. فهي تبدأ من سنة 1948 كما سبق أن بينا عندما تم تهجير عائدة من قريتها الفلسطينية وحيث كانت قرينتها جليلة التونسية طفلة لا تفقه من أمر فلسطين شيئا، لولا جدها وجدتها اللذان كانا يرسمان في حديثهما امامها معالم الطريق إلى الكفاح وإلى التحرر. كما تذكر بأن أحد أقاربها كان قد وهب نفسه إلى القضية مبكرا عندما سافر باتجاه فلسطين للمشاركة في النضال، لكن الممثلة تبين بأنه عاد على أعقابه خائبا بعد أن تم ايقافه في احد بلدان المشرق حيث ذكروه هناك بضرورة الانتهاء من تحرير بلده أولا.

وتستعر المفردات كما يلتهب الخطاب لدى جليلة بكار عندما تصل إلى مقاربة نكسة العرب سنة 1967. فالشعارات والمبادئ الستينية التي كانت رائجة في تلك الفترة تختلط بحماسة الشابة الثائرة جليلة ولكن أيضا بانكسارات الأمة وبخيبات شعوبها ومرارات شعرائها وفنانيها. وتصبح المقاربة بين النضال وبين الابداع أو بالاحرى بين تاريخ عائدة وتاريخ جليلة، أكثر تجليا ووضوحا عندما تعرض الممثلة إلى مطلع الثمانينات وأواسطها. ففي الفترة الأولى نجد بأن الغزو الاسرائيلي للبنان يقابله انجاز مسرحية «لام» لمجموعة المسرح الجديد التي تنتمي اليها الممثلة. هذه التي تبين بأن «لام» ، كما يفهم من عنوانها، انما جاءت لتأكيد الأمل والألم ولكن أيضا للتعبير عن الرفض والاعتراض على ما سيحدث والملامة على ما حدث. أما بالنسبة للحقبة الثانية فان الغارة الاسرائيلية على مقر القيادة الفلسطينية بضاحية حمام الشط حول العاصمة التونسية نجدها تتناظر أو تتقابل مع انجاز مسرحية عرب للمسرح الجديد. وبنفس القدر من المقارنة والمقاربة يتم العرض لمسرحية «فاميليا» (العائلة) التي أنتجت على هامش حرب الخليج الثانية، والتي عرضت في بيروت على وقع أعمال المقاومة اللبنانية. وفي هذا السياق تذكر جليلة بكار بأنها ومجموعتها قدمت عرضا خاصا على شرف مجموعة من نساء المخيمات الفلسطينية، وذلك حبا في عائدة وإمعانا في البحث عنها. =