مسافر مقيم يتأمل في كتاب الطبيعة

حاز على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة

غلاف الكتاب
TT

حاز كتاب «مسافر مقيم» للشاعر العراقي باسم فرات على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة 2013 - 2014 الذي صور فيه المؤلف وعلى مدى عامين كاملين رحلاته الشيقة إلى أعماق الإكوادور، وهي رحلات أو «يوميات تنفتح بقارئها على فضاءات غير معهودة»، كما رأت لجنة التحكيم ذلك؛ لأن الشاعر باسم فرات «يكتب بعينيه وذاكرته وقلبه».

وصل باسم فرات إلى العاصمة الإكوادورية كيتو في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 بصحبة جينيت، زوجته النيوزيلندية ذات الجذور الإنجليزية. هي إنسانة غربية منظمة جدا، وهو شاعر شرقي مسكون بالدهشة وحب الاستكشاف. وفي 23 يوليو (تموز) 2012 سيقوم باسم بأولى رحلاته إلى غواياكيل، أكبر مدن الإكوادور، ومنها إلى ساليناس وأيامبه وميناء لوبز، مرورا بمونتكرستي وبدرنالس، صعودا إلى بعض الجبال الشاهقة منها كوتوباكسي وتشيمبوراسو والاوسي، نزولا إلى الأمازون وبعض محمياته ومنتجعاته السياحية الساحرة، وانتهاء بمدينة القديس دومينغو ومتحف الماء في مدينة كيتو، وما تخلل هذه الرحلات من مجازفات ومخاطر لا يستهان بها لأنه أوشك أن يدفع حياته ثمنا لها.

منذ البدء يحيطنا الكاتب باسم فرات بمعلومات كثيرة عن الإكوادور بشكل عام، وكيتو بشكل خاص، مصورا لنا سلاسل جبال الأنديز الـ3 وجبالها الـ40 الشاهقة الارتفاع التي تطل قممها على الغيوم والأمطار والصواعق من مسافات بعيدة. فالجبل في الإكوادور لا يسمى جبلا ما لم يزد ارتفاعه على 4000 مترا. وبما أن منزل الرحالة باسم فرات يقع على ارتفاع 2850 مترا فوق مستوى سطح البحر، فإنه - بحسب الإكوادوريين - لا يعيش على جبل!

لا شك في أن فصول هذا الكتاب تتمحور حول الرحلات التي قام بها الشاعر باسم فرات وحده أو مع زوجته في بعض الأحيان، وهذا ما نلمسه من ضمير المتكلم الذي يطغى على بعض الفصول، حيث نشعر ببعض الفوارق بينه وبين زوجته النيوزيلندية القادمة من ثقافة مغايرة لثقافة الكاتب الشرقية. فثمة شذرات جميلة تصادفنا هنا وهناك تكشف عن اهتمام الكاتب بتلاقح الحضارات من جهة ونبوّ بعضها عن بعض من جهة أخرى.

إن الذين يعرفون الشاعر والمصور الفوتوغرافي باسم فرات عن كثب سيدركون أنه مولع بالأسفار والرحلات، وقد صادف أن تكون زوجته جينيت أكثر ولعا منه بالأسفار، ولولاها لما تحققت لباسم مثل هذه الفرص الذهبية التي استثمرها أفضل استثمار وحوّلها إلى مادة أدبية راقية تنضوي تحت باب «أدب الرحلات». وبما أن الإكوادور ليست محطة باسم فرات الأولى فكان عليه أن يكتب عن نيوزيلندا أولا التي قبل فيها كلاجئ، ثم اليابان التي عاش فيها بعيدا عن هاجس اللجوء السياسي أو الاقتصادي، ثم جمهورية لاوس الديمقراطية، ولكن أخشى ما أخشاه أن يكون باسم فرات قد أهمل التدوين قبل مرحلته الإكوادورية، وهذا هو الذي دفعه لأن يقدم المرحلة الأخيرة على سابقاتها التي لا تقل دهشة وفتنة وإغراء من الإكوادور التي تعني «خط الاستواء».

يتصف باسم فرات بدقة الرصد، وقوة الملاحظة، والفضول المعرفي الذي يفضي غالبا إلى الاستكشاف ومفاجآته الكثيرة. وبما أنه مصور فوتوغرافي فإن حواسه الـ6 جميعا متيقظة بما فيها الحدس أو الحاسة السادسة التي تحرضه على خوض مغامرات لا تحمد عقباها مثل مجاورة الحيتان أو الاقتراب من التماسيح أو الدنو من الأفاعي السامة التي تضعه دائما في دائرة الموت الساخنة.

لا تقتصر دقة رصد الشاعر والمصور فرات عند حدود «كتاب الطبيعة» الذي يحلو له أن يتمعن فيه في كثير من الأحيان التي يكون فيها مسافرا بالسيارة أو القطار ليستمتع بجمال الطبيعة من أشجار وأنهار وجبال وهضاب وسهول وصحارى منبسطة على مد البصر، بل إن عينيه تلتقطان الشعارات التي تبثها الأحزاب والحكومات الفاشلة التي لا تفلح إلا في نهب ثروات البلاد والعباد. فحينما نقرأ في الإكوادور أو غيرها من البلدان التي ترفع شعارات من قبيل «وطن الكرامة أو العدالة أو الليبرالية» فإننا نتيقن في الحال أن هذا البلد يهدر كرامة الإنسان، ويغتصب العدالة، ويجعل من الليبرالية شبحا لا وجود له على أرض الواقع تماما كما هو الحال في بلدان العالم المتخلفة التي تنتعش فيها الديكتاتوريات التي تروج لـ«ثقافة الشعارات والصور» التي تعمل ضدها في واقع الحال.

على الرغم من جمال الطبيعة وثرائها في الإكوادور، فإن شعبها فقير جدا ولا تعرف حكومته كيف تستدرج السياح وتوفر فرص عمل كثيرة لمواطنيها متعددي القوميات والثقافات والأديان. وقد انتبه الكاتب باسم فرات إلى السرقة بوصفها ظاهرة شائعة في الإكوادور فقد تعرض هو غير مرة لظاهرة السرقة المسلحة ونجا من الموت بأعجوبة، فالسراق لا يتورعون عن استعمال الأدوات الجارحة كلما دعتهم الحاجة إلى ذلك فلا غرابة أن يتفادى الكاتب حمل مبالغ مادية كبيرة في محفظة نقوده خشية من وقوع السرقة في أي لحظة.

لم يتبع الكاتب خطة مدروسة في تقديم المعلومات الكثيرة التي توفرت لديه خلال سنوات إقامته في كيتو، بل كانت هذه المعلومات تنساب عفو الخاطر كلما وجدت سبيلها ضمن السياقات السردية لفصول الكتاب.

لا يحتاج القارئ إلى معلومات متوفرة على الإنترنت حتما من قبيل التعداد السكاني أو جغرافية الإكوادور، لكنه بحاجة ماسة إلى أبرز المحطات في تاريخ الشعب الإكوادوري، وخصوصا أن شعبه عريق وتمتد حضارته إلى بضعة آلاف من السنين. وحسنا فعل الكاتب حينما توقف عند خوسيه ألوي ألفارو دلغادو، باني الإكوادور، والمحافظ على وحدتها الوطنية، والمدافع عن قيمها الديمقراطية.

من المعلومات الشيقة التي يحتاجها القارئ العربي هي حديثه عن البراكين الـ8 النشيطة في السلسلة الوسطى التي تقع عليها العاصمة كيتو أو البراكين الخاملة التي يمكن أن تنفجر على غير موعد كما هو الحال في براكين الجنوب، أو الحديث عن اللغة الإسبانية التي يتحدث بها جميع الإكوادوريين واللغات المحلية التي لم يبقَ منها سوى 14 لغة من أصل 30 لغة محلية يتحدث بها المجتمع الإكوادوري متعدد الثقافات والأعراق والأديان.

يحضر العراق بقوة في هذه اليوميات، سواء بشكل إيجابي أم سلبي، وقد تتجسد دلالة العنوان بأن الكاتب «مسافر في أرجاء العالم، ومقيم في العراق في الوقت ذاته» حتى وإن كانت هذه الإقامة مجازية، فالشاعر باسم فرات يحمل العراق في قلبه وذاكرته أنّى حل أو ارتحل. وهو يعقد المقارنات بين العراق وبين البلدان التي يحط فيها زائرا أو مقيما. وعلى الرغم من أن الشاعر فرات يتمنى التقدم والرقي للعراق فإن مقارناته الحيادية تكشف عن حجم التخلف الكبير الذي يعيشه العراق بوصفه دولة لا تعتني بالحدائق والمتاحف والمناطق الأثرية، ولا تهتم بالبيئة والمحميات الطبيعية والاصطناعية، وقبل ذلك كله فهي غير معنية بالإنسان العراقي وحقوقه الشخصية والعامة.

تمتد هذه المقارنات إلى البلدان التي عاش فيها أو زارها زيارات خاطفة مثل اليابان ولاوس، حيث يحيطنا علما بسلوكية الإنسان وأخلاقه ومنظومة قيمه الاجتماعية التي نعرف من خلالها أن الإنسان الياباني يقدس العمل، ويحب النظافة، بل إن الشعب الياباني نفسه هو الذي ينظف الشوارع والأرصفة والحدائق العامة، وإن عمال البلدية لا يعملون شيئا سوى رفع هذه النفايات وإيصالها إلى المناطق المخصصة لها بعكس اللاويين الذين يجمعون أوساخهم ويرمونها على حافة الشوارع لتعيدها حركة السيارات إلى أمكنتها السابقة.

يهتم باسم فرات بالمكونات الإثنية لأي بلد يزوره أو يقيم فيه، وربما كانت إشارته ذكية إلى أن جمهورية لاوس الديمقراطية فيها 200 إثنية، بينما لا يتجاوز تعدادها السكاني 6 ملايين نسمة. وقد وصل فرات إلى قناعة مفادها أن البلدان النقية ذات العرق الواحد هي أكذوبة كبرى فكل البلدان في العالم مكونة من إثنيات متعددة والعراق هو من بين هذه البلدان المتنوعة الأعراق والأديان والمذاهب. ينصب اهتمام الكاتب باسم فرات في معظم رحلاته على تصوير الحالات والمشاهد النادرة التي يقتنصها في الغابات والجبال والأنهار والمسطحات المائية، فكم من مرة يلفت عنايتنا إلى تصوير الورود والأزهار، بل إنه يصف الانحناء لها وتصويرها نوعا من الصلاة أو طقسا من طقوس العبادة؟ وكم من مرة يغرينا للتأمل في حيوان الفكونة وهو (بين اللاما والغزال) وليس أكبر من ذلك كما يشير صاحب المورد؟ وكم من مرة يبث فينا الهلع وهو يصور لنا أفعى الأناكوندا التي لا تنفث ولا تلدغ، ولكنها تلتفت حول الإنسان وتعصره حتى تطحن عظامه في جسده قبل أن تلتهمه وتمتص كل السوائل الموجودة فيه ثم تلفظه خارج جسدها القوي؟ أو يرعبنا حينما يتوقف ليصف لنا سمك البيرانا الأمازومنية الخطيرة؟

لا تتوقف رغبة التأمل والتصوير عند الحيوانات الخطيرة فحسب، بل تمتد إلى الطيور والفراشات والحشرات الكثيرة التي تزدحم بها غابات الإكوادور، وأنهارها المتدفقة، وشلالاتها الكثيرة التي كان يتأملها كمن يقرأ في صفحات الطبيعة أو يستوحي منها الكثير من قصائده كلما سنحت له خلوة هنا أو هناك ليدبج بعض الأشعار بلغة مفارقة لكثير من القصائد السائدة والمكرورة، ولا غرابة في ذلك فمن ينحني للوردة ويصلي لها لا بد أن تمنحه عطرا استثنائيا لا تمنحه إلا للمتعبدين الأنقياء الذين يدونون صلواتهم وهمساتهم على وريقات الورد المرهفة.