نابوكو مؤلف رواية «لوليتا» يكتب إلى زوجته ڤيرا

رسائل في 600 صفحة تلقي أضواء جديدة على حياته واهتماماته

فلاديمير نابوكوف
TT

«صحوت من النوم فوجدتني مشهورا».. عبارة قالها الشاعر الرومانتيكي الإنجليزي اللورد بايرون في مطلع القرن التاسع عشر عقب نشر قصيدته المسماة «أسفار تشايلد هارولد» (1812)، ولا تصدق هذه المقولة على أحد من أدباء القرن العشرين قدر ما تصدق على الروائي الروسي المولد لاديمير نابوكو (1899 - 1977).

كان نابوكو مهاجرا تركت أسرته روسيا إلى أوروبا عقب قيام ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917 الاشتراكية. استقر أبواه أولا في ألمانيا، ودرس الابن اللغة الفرنسية والأدب الروسي بجامعة كمبريدج بإنجلترا قبل أن ينتقل للعيش في برلين (1937 - 1940) ويكتب رواياته وشعره باللغة الروسية في أغلب الأحيان. وفي 1940 هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية (حصل فيما بعد على جنسيتها في 1945) أستاذا للأدب الروسي بجامعة كورنيل. ومنذ ذلك الحين أصبح يكتب كل رواياته باللغة الإنجليزية. وما لبثت روايته المسماة «لوليتا» أن ظهرت في باريس عام 1955، فإذا به بين عشية وضحاها يغدو حديث النقاد والجمهور. وحظر تداول الرواية زمنا إلى أن أفرج عنها وأصبحت الآن تعد من كلاسيات الفن الروائي في القرن العشرين.

واليوم يظهر كتاب عنوانه «رسائل إلى يرا» Letters to Véra يضم رسائل نابوكو Vladimir Nabokov عن سلسلة «كلاسيات بنجوين» في أكثر من 600 صفحة، يضم رسائله إلى زوجته ويلقي أضواء مهمة على هذا الأديب الذي كانت أبرز اهتماماته في الحياة ثلاثة: الأدب، ولعب الشطرنج، ودراسة الفراشات والعثة.

ومن المفارقات أن المخرج الأميركي ستانلي كوبريك طلب من نابوكو أن يكتب سيناريو «لوليتا» كي يحول الرواية إلى فيلم، ولكن كوبريك لم يرض عن سيناريو المؤلف، وعهد إلى آخر بكتابة السيناريو الذي نراه الآن مجسدا على الشاشة منذ عام 1962.

التقى نابوكو بيرا سلونيم لأول مرة في مطلع مايو 1923 في حفلة خيرية راقصة في برلين، كان وقتها شاعرا يكتب باسم مستعار هو «سيرين» عندما تقدمت إليه فتاة ترتدي قناعا أسود (كانت حفلة تنكرية) وعبرت عن إعجابها بشعره الذي راحت تتلوه من الذاكرة، كان طبيعيا عند ذلك أن ينبهر بها، وعقب الحفلة خرجا يتمشيان في الشوارع حتى ساعة متأخرة من الليل، هكذا كان أول لقاء بينهما متسما بطابع المفارقة، كما يلاحظ الناقد دنكان هوايت: مشروع حب بين فتاة متنكرة وشاب يكتب تحت اسم مستعار!

بعد هذا اللقاء بوقت قصير رحل نابوكو إلى جنوب فرنسا، اشتغل عاملا في مزرعة آملا أن يساعده العمل اليدوي الشاق على نسيان همومه: فقد قتل أبوه – وكان ينتمي إلى حزب ديمقراطي التوجه – في العام السابق وهو يحاول أن يحمي خصما سياسيا من الاغتيال، وكان محطم القلب؛ إذ تخلت عنه خطيبته التي رأى أبواها أنه لا ينتظره مستقبل طيب، وأقنعاها بفسخ الخطبة.

ظل لقاؤه بيرا ماثلا في ذاكرته، ومن فرنسا نظم قصيدة تصور الالتقاء بامرأة غامضة ترتدي قناعا على جسر فوق قناة، تقوم على جانبيه أشجار الكستناء، ونشر القصيدة في مجلة كان يعرف أنها من قرائها. وبعد ذلك بشهر كتب إليها أول رسالة منه يقول فيها إنه ليس معتادا على أن يتذوق أحد شعره، ولكنها – بلمسة واحدة منها – جعلته يحس بالثقة فيما يكتب.

لم يكن نابوكو مخطئا حين كتب هذا، فقد كانت هذه بداية واحدة من أطول الشراكات في تاريخ الأدب، لقد ظلت يرا – حتى موته في 1977 – حبيبته، وزوجته، وأم ابنه، ومعدة كتاباته للنشر، والباحثة التي تزوده بما يريد، ومترجمة أعماله إلى اللغات الأخرى، ومديرة شؤونه، ونصيرته، وحاميته، ومعاونته في الكتابة، شاركته حبه للصيد وتصنيف أنواع الفراشات. وحين ملأت إقرارها الضريبي في أميركا كتبت في خانة المهنة: «مساعدته». وحين قرر – في لحظة غضب ويأس – أن يحرق مخطوط رواية «لوليتا» أنقذت الرواية من أن تغدو طعمة للنيران. وقد سجل نابوكو أنه رأى حلما كان فيه يعزف على البيانو بينما هي تقلب صفحات النوتة الموسيقية له.

صنعت يرا ذلك كله بإنكار كامل للذات، وحتى قبل أن تلتقي به كانت تؤمن – من قراءتها لأعماله – بأنه أعظم كتاب جيله، وضحت بأي مطامح أدبية شخصية لها (كانت قد نشرت عدة ترجمات منظومة في مطلع عشرينات القرن الماضي) كي تكرس ذاتها لتحقيق مطامحه.

ورسائل نابوكو التي تظهر الآن لأول مرة – مترجمة من الروسية إلى الإنجليزية بأقلام أولغا ورونينا وبرايان بويد – تكشف عن تطور موهبته. وكان ابن نابوكو – المدعو ديمتري – قد شارك في المراحل الأولى لإعداد هذا المجلد قبل أن تتدهور صحته ويتوفى في 2012.

إن نابوكو يكتب هنا لأول وأهم قارئة له، ولكن المجلد لا يحوي للأسف ردود يرا على خطاباته، فقد كانت حريصة على خصوصية علاقتهما إلى الحد الذي يجعلها تدمر كل رسائلها إليه، لقد كانت تشعر بأن كلماته هي وحدها الجديرة بالبقاء.

إن رسائل نابوكو إليها في عشرينات القرن العشرين تسجل خطبه لودها وسنوات زواجهما السعيدة الأولى، أما أغلب الرسائل فمكتوبة في الفترة ما بين منتصف وأواخر عقد الثلاثينات حين كان نابوكو بعيدا عنها يقضي أسابيع وأحيانا شهورا في باريس أو بروكسل أو لندن باحثا عن وظيفة ذات دخل يمكنه من إخراج أسرته من ألمانيا النازية. وفي مطلع الأربعينات اضطر للابتعاد عن زوجته حين اشتغل محاضرا في الولايات المتحدة الأميركية.

وأولى هذه الرسائل هي أغناها وأكثرها شاعرية، فنحن نراه هنا شاعرا شابا عاشقا ينادي محبوبته بمختلف أسماء التدليل، وهو أيضا يكتشف قدراته في كتابة النثر، ويجرب وقع كتاباته على قارئته، ومن جنوب فرنسا حيث قضى فصل الصيف، يكتب لها قائلا: «إنك الشخص الوحيد الذي أستطيع أن أتكلم معه عن ظل سحابة أو عن أغنية فكرة وعن كيف أنني عندما خرجت للعمل اليوم ونظرت وجها لوجه إلى زهرة عباد شمس طويلة ابتسمت لي بكل بذورها».

غدت يرا هي جمهوره وترمومتره الجمالي، يقول في خطاب آخر: «لست أستطيع أن أكتب كلمة دون أن أسمع الطريقة التي ستنطقينها بها»، وفي رسالة ثالثة: «لا أستطيع أن أتحدث عن هذا كله مع أحد غيرك».

وفي السنوات التي سبقت نشر أول رواية له، وعنوانها «ماري»، في 1926 نجده يبلور أفكاره عن الفن والأدب: «لقد أصبحت، على نحو متزايد، راسخ الاقتناع بأن الفن هو الأمر الوحيد المهم في الحياة، وإنني على استعداد لأن أتحمل عذابا كذلك الذي يوقعه الصينيون بأعدائهم في سبيل أن أقع على نعت واحد موفق»، ويعيد قراءة رواية الروائي الفرنسي فلوبير «مدام بواري» واصفا إياها، على نحو لعله لا يخلو من مبالغة، بأنها «ألمع رواية في الأدب العالمي».

ورسائله في السنوات التي تلت ذلك أقرب إلى طابع كتاباته الروائية، وذلك حين يكتب من فرايبورغ بألمانيا واصفا الأبقار، أو يكتب من مقاطعة كنت بإنجلترا واصفا الأغنام. وفي مترو أنفاق لندن يصف السلالم الكهربائية المتحركة بأنها تصعد «مثل شلال حديدي». وفي اريس يتوقف ليصف برج إيفل.

وفي عقد الثلاثينات تغدو الرسائل أقرب إلى الطابع العملي؛ إذ يبحث نابوكو عن عمل في باريس ولندن، ويسعى إلى استخراج جواز سفر، ويلاحق رؤساء التحرير والناشرين. ويذكر نابوكو أن الأديب الآيرلندي جيمس غويس حضر إحدى القراءات التي قدمها نابوكو من أعماله في 1937. ويصف غويس بأنه «أطول قامة مما كنت أظن، له نظرة محدقة مروعة كالرصاص». وكان نابوكو يعد رواية غويس «يوليسيس» واحدة من أعظم 4 أعمال قصصية في القرن العشرين (الأعمال الأخرى هي في رأيه: النصف الأول من رواية الروائي الفرنسي مارسيل بروست «بحثا عن الزمن المفقود»، وقصة الروائي التشيكي كافكا «المسخ»، ورواية الشاعر والروائي الروسي أندريه بلاي المسماة «بطرسبرغ»)، ولكن ما أثار اهتمامه في هذه المناسبة هو حالة غويس البصرية: «إنه لا يستطيع أن يبصر البتة بإحدى عينيه، بينما بؤبؤ العين الأخرى (الذي يصوبه إليك بطريقة خاصة، لأنه لا يستطيع أن يديره) قد حل محله ثقب، وكان عليهم أن يجروا له 6 جراحات قبل أن يتمكنوا من ثقب البؤبؤ دون أن يحدثوا له نزيفا. ومن المعروف أن غويس، في أواخر أيامه، أصيب بالعمى الكامل.

ويصف نابوكو غداء حضره مع الروائي الإنجليزي ھ. ج. ويلز، وجنازة الأديب الروسي زامياتين صاحب رواية «نحن» التي تعد من أول الكوابيس العلمية (مثل رواية أولدس هاكسلي «عالم جديد جميل» أو رواية ورچ أورويل «1984»)، وكيف أنه في الجنازة سار بجوار القاص الروسي إيان بونين الذي بدا مثل «سلحفاة عجوز ضامرة»، «وقد قال لي بصوت كالفحيح، وكان مخمورا، إنه (أي بونين) يتوقع أن يموت وحيدا وفي غمرة عذاب أليم»، كذلك تكشف الرسائل عن أن نابوكو لم يكن يحسن الظن بأدب المرأة الذي تنتجه الكاتبات.

وآخر هذه الرسائل مكتوبة من ثاورمينا في إيطاليا عام 1970، يعبر نابوكو هنا عن سعادته بفخامة الفندق الذي ينزل فيه، وإن شكا من وجود عدد كبير من الألمان هناك، وفيما بعد أقام مع يرا في فندق منتروبالاس بسويسرا ابتداء من عام 1966. وتولت يرا مسؤولية مراسلاته كلها، وساعدته على رسم صورته العامة أمام الناس. صار معروفا بكبريائه إلى حد الصلف، وردوده المفحمة على من لا يروقه كلامهم. والأمر، كما يقول دنكان هوايت، إن «الشابة الغامضة التي كانت ترتدي قناعا في تلك الحفلة التنكرية – منذ 50 عاما – قد ساعدت زوجها على أن يرتدي قناعا بعد أن تسنم قمة المجد الأدبي!».